1. ضحية إحتيال ..
يوم الأحد ..
الساعة التاسعة والنصف صباحا..
المكان مكتظ والاصوات تتداخل لتلقي على مسامعي بعض الشتائم الي أطلقها اصحابها
الغاضبون ..كنت أحاول المرور بصعوبة ، حشود من الناس تتدافع بطريقة عنيفة ، شخص
يركلني والآخر يدفعني وآخر يدفع ظهري وأخرى تصفع وجنتي دون قصد ! بل وأنني كنت
أدفع الآخرون كذلك رغما عني وسقطنا على الأرض مرارا وتكراراً !
إن لم أخرج والورقة معي فسأموت تحت اقدامهم دون ان يلاحظوا ، وإن خرجت والورقة
سليمة في يدي وأنا على قيد الحياة سأكون ممتنة !
صرخت بتذمر وانزعاج : عذرا ابتعد قليلا ، أتسمح ؟ هيه انتِ .. انتبهي قليلا !
سيدي انت تدوس على قدمي .. من فضلك أبعد يدك ! ابعد يدك عن حقيبتي ..
المكان مزدحم جدا ، يبدو الوضع كما لو كنا في مركز تجاري ويوجد به عرض تخفيضات
على الأسعار وليس ساحة لتقديم اوراق نتائج التدريب للطلاب الذين أسرهم خوف وقلق
من اكتشاف النتيجة وحسب .
أقدر حماس الطلبة ولكن لا يجب أن يتصرفوا بفوضوية وهمجية هكذا !
مزاجي متعكر منذ أسبوع كامل بسبب ذلك الحثالة ، ولا طاقة لدي تسمح لي في احتمال
أي تصرف مستفز يبذر من أي شخص ..
هؤلاء الموظفين .. كان عليهم أن يكونوا أكثر تنظيما وترتيبا ، بدلا من تواجد جميع
طلاب السنة الأخيرة في الوقت آنه !
لو كنا في السنة الأولى لما كان الوضع هكذا ، ولكن .. لأننا ندرس التمريض طوال
هذه السنوات فها نحن ننتظر أوراق النتائج بعد ان تسبب هذا المجال القاسي اللئيم
مدمر الملذات بعزلنا عن الحياة وتدمير صحتنا النفسية وهيجاننا كالوحوش ،! وصل
دوري أخيرا واستلمت الورقة واسرعت اخرج من هذا الحشد وأنا أرفع يدي عاليا ممسكة
بالورقة لئلا يصيبها مكروه كما لو كنت ارفع كأسا ذهبيا ،خرجت أخيرا و أحنيت ظهري
لأتكئ على ركبتاي الهث بانزعاج هامسة : كدت أختنق !
استقمت وانا أقوم بأخذ شهيق عميق ورتبت شعري ومظهري الذي أفسده الزحام ، ثم
ابتسمت وأنا أنظر للورقة بتوجس ..أخشى قراءتها فأُصدم ولكنني سأفعل ذلك في
النهاية ولا مهرب!
لفت انتباهي صراخ إحدى الفتيات بحزن واستياء وصديقتها التي تهدئها قائلة : لا بأس
عزيزتي يوجد دائما فرصة أخرى ..
ولكنها نفيت بحزن وقلق : أنتِ لا تفهمين شيئاً ! جميع أفراد عائلتي نخبة من أفضل
الأطباء وسأكون عار عليهم لو اكتشفوا الأمر !
وشاب آخر قد ركل سلة المهملات بقوة ليصرخ بغيض : اللعنة على الجهود التي ضاعت
هباءً ..
أيده صديقه : يوجد خطأ ما ، ربما ذلك البروفيسور الذي تشاجرت معه يكن لك الحقد
وأطاح بك مستغلا الفرصة ليلقنك درسا في التقييم .. ولكن انظر إليك ، لو تم اخذك
للعمل في المشفى فستُزهق الأرواح وتزدحم السماء بهم .. أنتَ حتى حطمت رقماً
قياسيا من بين اكثر الطلاب اللذين فقدوا وعيهم كلما رأوا حالة طارئة !
انتهى تعليقه هذا باستفزاز الطرف الآخر بشدة : كلمة أخرى وسأرسل روحك إلى السماء
بالفعل وألعنك مدى الحياة ..
تنهدتُ بأسى لحالهم ثم سرعان ما تجاهلتهم وتساءلتُ كيف سيكون تقييمي للتدريب
السابق يا تُرى ؟ لو كان أدائي جيداً فسيتم قبولي في الوظيفة التي قمت بالتقديم
عليها مسبقاً ، وسأكون حينها قد ضمنت وظيفتي فوراً قبل أن أتخرج حتى ! فلم يبقى
لي سوى الاختبارات النهائية ..
لقد تعبت في التدريب كوني ممرضة في المعهد ولا أستطيع أن أتخيل فشلي بعد كل هذا !
وبصراحة لن أرضى بتقييم ضعيف بعد عناء دام شهرين فلو ركل هذا الشخص سلة المهملات
فأنا لن أمنع نفسي من ركل مؤخرة مسؤول التقييم !
لقد بذلت جهدي وسخرت وقتي وحياتي لأجل الحصول على علامة الامتياز فقط ! لم أكن
أملك الوقت لحك فروة رأسي حتى ..
لقد كان أبي وأمي دائما ما ينزعجان من عزلتي في غرفتي وجلوسي أمام الأوراق
والحاسوب طوال الوقت ! ثم يأتي سام ليغيظني ويحاول استفزازي وافساد اجواء دراستي
، وكذلك إيثان الذي يجعلني أرغب في تمزيق الكتب والأوراق ورميها على وجهه بقوة ..
وقفت في محطة انتظار الحافلات وجلست على المقعد الطويل باندماج تام ، لأرجع
الخصل المتمردة من شعري خلف اذني وأنا أقرأ بتمعن وبطئ شديد وكأنني أماطل الزمن
، وسرعان ما صرخت بفرح وحماس لألفت الأنظار المستغربة والمحتارة من حولي ، ثم
تداركت الأمر واطلقت تنهيدة ارتياح قوية خرجت من أعماقي حين علمت بان تقييم
أدائي كان ممتازاً !..
حسنا هذا يعني أن إجازتي ستبدأ وأنا مرتاحة البال ..
وبعد انتهاءها سوف ابذل جهدي في الدراسة للاختبارات جيدا ..
سأرتاح ما يقارب الشهرين وبعدها سأختبر بضعة اختبارات نظرية وتطبيقية وانتهي من
عذاب الدراسة إلى الأبد ..
همست برضى وحماس : بقيت الشقة فقط ..
لقد اتفقت منذ أسابيع مع مالك الشقة أن أقوم باستئجارها منه ، فقبل بمبلغ معقول
لا بأس به ، والحمد لله على أنني وجدت الشقة بهذا الوقت ، جيد ، لدي شقة وعمل
قريبا ، لذا لن أحتاج إلى والداي أو سام وإيثان في هذه الفترة ، خصيصا ان
والداي يريدان الاختلاء بنفسيهما قليلا بعيدا عن الضجة والعمل ..
من حقهما أخذ قسطا من الراحة ويبدو انهما سيطيلان فترة الراحة بقضاء الاجازة
على إحدى الجزر.
على الأقل لن يفسد عليهما أيا من أجواء العمل أو المشاغل والهموم من حولهما ،
الرائع انهما قبل ان يذهبا منذ عدة ايام اقاما لي حفل عيد ميلادي الحادي
والعشرون ، كان حفلا متواضعا ولكن بساطته أسعدتني كذلك ، يكفي أن الابتسامة لم
تفارقنا جميعنا ذلك اليوم ..
بالنسبة لي .. السرور لا يحتاج إلى طريق مبهرج ليدخل إلى قلبي ، أحيانا أبسط
الأمور تسعدنا عوضا عن انشغال أعيننا بالأمور الجميلة التي تفوق حدود متناول
أيدينا ، إنني أبصر سعادتي ببصيرتي لا ببصري !
على أي حال ..
لقد أُنهِكتُ اليوم كثيرا إذ استيقظت مبكرا حتى أصل لهذه المدينة ، إنها تبعد
عن مدينتي بساعة تقريبا ولكن بسبب الازدحام اليوم فتأخرت ما يزيد عن النصف ساعة
وأريد أن أرتاح قليلا ..
لقد بحثت في شبكة المعلومات عن شقق للتأجير ووجدت شقة قبل بضعة أيام وها انا ذا
اليوم ذاهبة لرؤيتها ، إن كنتم تتساءلون عن سبب انتقالي من مدينتي إلى هنا فهو
ببساطة لأجل العمل في أكبر وأرقى مشفى في هذه المدينة ، هذا ما أطمح إليه ، ففي
مدينتي لم أشعر يوما بالانجذاب إلى أي مشفى بقدر ما شعرت نحو مشفى هذه المدينة
فأنا ..
بتر أفكاري وصول الحافلة ووقوفها امامي مباشرة فاستقمت متجهة إليها ..
فترة معقولة من الإنتظار والوقوف عند محطتين مسبقا .. ثم أخيرا ً !
نزلت من الحافلة وأنا احدق بالمكان بتأمل وتمعن باحثة بنظري عن شيء ما ، ها انا
اتجه لأخذ مفاتيح الشقة التي تطل على الشاطئ ، وها هو يقف أمام متجر صغير
منتظرا وصولي ، تبسمت في وجهه وقلت بنبرة لطيفة هادئة : صباح الخير سيد إدوارد
.
إنه رجل كبير في السن نسبيا ، ويبدو في نهاية عقده الخامس مرتديا وشاحا بنيا
سميكا حول عنقه ليدفئه وعيناه الداكنتان تحدقان إلي ما ان استدار ثم ابتسم وقال
مصافحا بحرارة ولطف : آه ! آنسة شارلوت صباح الخير!
تحدثنا قليلا حول موضوع الشقة ، وبدى يتحدث بسرعة ملقيا بكلمات مختصرة كما لو
كان مشغولا !
وقد كان توقعي في محله إذ قال بأنه عليه العودة لمنزله بسرعة ولا يمكنه التأخر
أكثر ، فأخذت منه المفتاح وعنوان الشقة بدقة ..
المشكلة أنني لم أرها حتى الآن .. حماقة وتهور مني صحيح ؟ بل جنون ..
فلقد اكتفيت برؤية بعض الصور لها عن طريق الموقع الذي وجدتها فيه ولم أكلف نفسي
عناء التأكد أكثر ..
لا يهم المهم أنني وجدت شقة فحسب !
ركبت سيارة أجرة وأعطيته الورقة التي كتب العنوان فيها فقال أنه عنوان قريب
وحين أوصلني دفعت له الأجرة وأخذت حقيبتي الصغيرة التي وضعت بها ملابس بسيطة
وبعض الضروريات اللازمة مؤقتا لبضع أيام فقط حتى تستقر أموري ثم انقل الملابس
والأشياء الأخرى ..
مشيت خطوتين ثم توقفت اتأمل المكان بإعجاب ، كان جميلا ويبعث الراحة للنفس ،
الشقة تطل على الشاطئ وحولها مطاعم ومتاجر أزياء بسيطة رائعة ، المكان ليس
مزدحم بل هادئ وجميل جدا فيه كل شيء من خدمات ومرافق وأسواق .. وبصراحة هذا
جعلني أتساءل في هذه اللحظة عن سعر إيجار الشقة مقارنة بموقعها المبهر !
تحركت قدماي نحوها ، هي ليست شقة ضمن مبنى وإنما شقة مستقلة على ارتفاع بضع
درجات وبجانبها شقق كثيرة مشابهة بالتصميم ،ها انا اخطو درجات بسيطة حتى لاحظت
ظلا خلفي ، تجاهلت الأمر فلا يوجد ما يثير الريبة ولكن حين مددت يدي لأفتح
الباب امتدت يد أخرى فاستدرت بفضول واستغراب ولكن سرعان ما تغيرت نظراتي إلى
الانزعاج والحدة قائلة بضيق شديد : أنت ؟!
أخذت وضعية الحذر وانا ارفع كلتا يداي واحكم قبضتهما بتوتر شديد ! انه ذلك
الحثالة ..
يا الهي ارحمني ، لا بأس بلقاء أي شخص الا هذا خصيصا ..
رمقني بتمعن لثوان ثم صرخ بدهشة : إنها أنتِ ! أهي صدفة أم أنك تلاحقينني ؟ أو
ربما يكون القدر !
وقفت مقابله بحزم و زفرت بإنزعاج : اسمع يا هذا ، لقد سبق وانك تلقيت مني ما قد
لا يرضاه أحد على نفسه إلا إذا كنت بليدا لا يبالي ، فربما السؤال موجها إليك ،
هل تلاحقني أم ماذا ؟ هل ترصد تحركاتي ؟!! هل أنت ملاحق وتترصد لي ؟ هل عُينت
جاسوسا علي ؟ ما الذي تريده مني بحق الإله !
قطب حاجبيه وهو يحدق بالمكان جيدا وقال متمتما كلمات خافته لم اتمكن من سماعها
ثم عاود ينظر إلي وقال بابتسامة حيرة صغيرة : حسنا لقيت مالا يرضيني كما تقولين
ولكن يبدو أنك أسئت الفهم تماما ! فأنا لست هنا لملاحقتك وإنما لأمر آخر ..
أردف بشيء من السخرية : بالمناسبة .. لربما كما ذكرت للتو قد شاء القدر أن
نلتقي مجددا ، ما رأيك أنت؟!
احتدت عيناي وأنا ارمقه بغيض وتمتمت مشيحة بوجهي : يبدو انك لا تتعلم بسهولة
ولا من المرة الأولى ! انت السبب في تعكر مزاجي طوال الأسبوع وبسببك أعاني من
الكوابيس السيئة !
أمال برأسه بلامبالاة باستفزاز مما أزعجني وبعدها تقدم قليلا وهو يقول باستخفاف
متململ : فليكن .. أنت تقفين في طريقي والآن ابتعدي رجاءً ..
رفعت حاجباي بعدم فهم مرددة ما قاله بحيرة ! ثم قلت باندفاع : أرجو المعذرة
ولكنك من تعيقني ..
نظر نحوي بتساؤل : أعيقك عن ماذا تحديدا ؟
أجبته وأنا أحمل الحقيبة : عن الدخول إلى شقتي !
وضعت المفتاح متجاهلة وجوده الا أنه امسك بذراعي يديرني نحوه وهو ينظر إلي
باستنكار وعدم فهم : هيه انتِ ، إنها شقتي !
ما الذي يقوله الآن ! لست متفرغة لهرائه إطلاقا !
تنهدت بنفاذ صبر وأنا اشير للمفتاح وارفعه امام وجهه : هذا المفتاح لي وقد
استلمته اليوم منذ قليل وأخذت عنوان السكن هنا ، فإن كنت بلا مأوى فهذه ليست
مشكلتي لذا لا تعتدي على منازل الناس وأملاكهم ، إنها عادة سيئة قد يعاقبك
عليها القانون !. ثم ما الذي تريده بالظهور أمامي الآن ؟ ما الذي تفعله في هذه
المدينة على أي حال ! حسنا ليس وكأنني أسألك لأنني مهتمة .. لا تجب على سؤالي
لا أريد سماع صوتك ..
كدت أدخل بعد ان فتحت الباب لولا انه امسك بذراعي مرة أخرى وقال بنبرة ساخرة
يجوبها استنكار : يا عزيزتي لقد اتفقت مع مالكها بأن أستأجرها ، ربما تكونين
مخطئة في العنوان مع ان المفتاح الذي تملكينه قد ..
قاطعته بنفاذ صبر : لا تلمسني هكذا مرة أخرى حتى لا ألكمك ، وإن لم تكن تصدقني
فها هو هاتف المالك ، والآن ارحل بسلام قبل أن تعرض نفسك للمسائلة القانونية و
للمشاكل فلقد بدأنا نلفت الأنظار من حولنا !
انتزع الهاتف من بيد يدي بكل وقاحة وتتمتم بدهشة : هذا الرقم لدي أنا أيضا
قابلته وأعطاني هذا المفتاح والعنوان ، هذه الشقة لي يا آنسة ، ربما أخذت نسخة
منه بالخطأ الغير مقصود ، هيا كل ما عليك ان تفعليه هو ان تذهبي إليه ، واشرحي
له الأمر وحسب ..
قالها بكل بساطة وهو يدفعني من كتفاي ويجبرني على نزول الدرج واتجه نحو الباب
ليدخل !! فأسرعت أصعد بحزم أمسك بذراعه بقوة : هل جننت ؟
زفر بضجر وهو يقول مستديرا بفتور : المجنون هو أنتِ ! لقد دفعت له المبلغ قبل
فترة للعيش هنا لذا اذهبي وأخبريه بالخطأ الذي حدث وتفاهمي معه بعيدا عني !
حدقت به بدهشة وعدم استيعاب ، أيعقل .. أيعقل أن ما يقوله صحيح ؟ لماذا قد يقع
المالك في خطأ كهذا ؟
لنقل أنه أخطا بالمفتاح ..
ماذا عن رخصة التأجير إذا ؟ !
لقد وقعت على ورقة الإيجار بالفعل !!
رصيت على شفتي بتوتر وقلق ، أخشى أن يكون قد أخطأ وان لم يكن ينوي ان أكون
المستأجرة فهذا الشاب سيأخذها بكل تأكيد وأنا لن أسمح له بذلك ، لقد أتيت قبله
! ثم يوجد مليارات البشر يعيشون على هذا الكوكب الضخم فلماذا أراه من بين
الجميع بحق السماء ؟
قلت بهدوء وأنا أحاول جاهدة وبصعوبة أن ابتسم في وجهه : إ .. اسمع ، دعنا
نتفاهم في الداخل وسنتصل بالمالك لنرى ما سيقوله .
وهذا ما حدث ، فلقد دخلنا إلى الشقة وتأملتها بإعجاب ، أثاثها جميل ورائع لونه
بني امتزج بالأبيض ! كان هناك غرفتين وكل واحدة فيها حمام خاص ، المطبخ
التحضيري متواضع ولا بأس به أما الشرفة فهي واسعة ..
ناهيك عن الشرفتين في تلك الغرفتين كذلك ، لقد أعجبتني الشقة كثيرا ..
ولست مستعدة لأن أتنازل عنها لهذا الشاب .. أبدا !
جلست على الأريكة بحزم أحاول الاتصال بالرقم مرارا وتكرارا ، ولكنه لا يجيب على
هاتفه !
حاولت مجددا ، وكثيرا .. دون توقف وها هو يرمقني بنظرات هازئة مستفزة : أرأيتِ
؟ لن يجيب على اتصالك لأنه لا يعرفك فأنا متأكد بانه سوء فهم وبانك أخذت
المفتاح بالخطأ سأحاول الاتصال نيابة عنك ..
ثم أردف بثقة : سيجيب بكل تأكيد ..
الآن فقط ..
كنت أحدق بملامحه بتمعن ، وللتو استوعبت أنها مميزة جدا !
أكثر ما لفت نظري هو لون عينيه الذي بدى كلون .. طبق أبيض مليء بالعسل الصافي
وقد انعكست عليه أشعة الشمس المشرقة في الصباح الباكر ! أما شعره فلقد كان كلون
عينيه تقريبا إلا أن الكثير من الخصل الشقراء قد تخللته بالإضافة إلى جذور شعره
الداكنة بعض الشيء ! وكأن شعره دمج كل تدرجات اللون الأصفر والبني ! وما أبرز
لون شعره وعينيه اكثر هو معطفه الأسود السميك وقميصه القطني الأبيض .
لحظة ! لماذا يبالغ إلى هذه الدرجة في ملابسه ؟ وشاح ، قبعة صوفية شتوية ،
قفازات خلعها للتو ، معطف سميك وقميص قطني ! هل نحن في أحد القطبين ؟!
رفع حاجبه الأيسر بإنهماك وهو يحدق إلى شاشة هاتفه ، شخص مثله لا يستحق هذه
الملامح إطلاقا ، نعم ..
فهو يخفي خلف ملامحه الجذابة هذه أخلاق فاسدة وكريهة ، لقد قابلته منذ أسبوع
وأنا في طريقي للمنزل ..
اضطررت لأن اغير مساري نحو ملهى قريب بسبب إصرار زميلتي على مرافقتها ، فذهبت
بالإكراه وقد كانت فكرة سيئة جداً ! كان هذا الشاب موجودا يراقص فتاة ويعبث مع
أخرى ويغازل أخرى وعلى هذا الحال ! وحين شعرت بالألم في رأسي وبصداع شديد قررت
الخروج واستأذنت من زميلتي وانتظرت سيارة أجرة ..
لست معتادة على أماكن مليئة بالضجة والإزعاج ولا أحتملها أبداً ! وما أدهشني هو
اتباعه لي ليجرني خلفه نحو زاوية في زقاق مظلم وضيق وحينها لم أستطع حتى أن
أطلب المساعدة لأنني لم اكن قد استوعبت الأمر بعد ، ولكن المغضب والمثير
للغثيان أنه قد دنى نحوي فجأة ولم أدرك ما حدث حتى ابتعد عني بابتسامة هادئة
لأرفع اناملي المرتجفة نحو شفتاي بعدم تصديق !! قبلني ببساطة !! قبلني وكأنه
يلقي بالتحية أو يقوم بأمر يومي عادي جداً !
تلقى صفعة مني وأطلقت عليه سيل شتائم ، ضربته بحقيبتي وركلت ساقه وما استفزني
أكثر حين ظل يرمقني بحيرة وكأنه لم يفعل شيء ! فلم أكبت غضبي ووجدت نفسي حينها
أضربه بحقيبتي مجدداً على رأسه فسقط مغشيا عليه ببساطة نظرا لثمالته !
لذا تركته وأنا أشتم بصوت عالي بازدراء شديد وغضب لا يمكنني قمعه ..
انتشلني من شرودي ضحكاته الخافتة وهو يقول : ما الذي تحدقين إليه ؟
أجبته متظاهرة بالملل : اطمئن .. لم أكن أعلم بأنني أحدق بك !
سأل بابتسامة مرحة : أوه ! وما الذي كنت شاردة الذهن فيه إذا ؟
رمقته بثبات وأجبته بثقة أقلب عيناي بلا مبالاة : كنت أتذكر كم كنت سعيدة حتى
ظهرتَ اليوم وعكرت مزاجي تماما ، هل أجاب ؟
رفع حاجبيه وهو يقول : لا ..!
أطلقت همهمة إحباط واستغراب ، ثم همست بقلق : أيعقل بأنه قد أخذ المال من كلينا
؟
بعثر شعره بتفكير : ولم لا ؟! يوجد الكثير من عمليات الإحتيال مؤخرا وقد نكون
ضحية لهم ..
أردف بنبرة مستنكرة وعينيه تلمعان ببريق خبيث : بالمناسبة .. لم تخبريني باسمك
حتى الأن !
نظرت إليه بحزم : أنت شخص لامبالي ، في أوضاع كهذه تهتم بهذه الأمور السخيفة !
رفع حاجبه الأيسر وتمتم : ما إذا إن أردت مناداتك ؟ سأكون بحاجة إلى اسم اناديك
به بلا شك ! وماذا لو..
قاطعته بملل : آسفة ولكنني وُلدت بلا إسم ، كما أنني لا أريدك أن تنادني إطلاقا
فأنت لن تمكث هنا طويلا على كل حال !
ابتسم بلطف وهو يرخي جسده على الأريكة ثم قال بنبرة متململة : أخشى أن اقول بان
هذا الحديث موجها إليك أنتِ ..!
وقفت اقول باندفاع : أنا لن أخرج من هنا فلتدبر أمورك يا هذا وكن منطقيا فأنا
لن أستطيع إيجاد منزل بهذه ببساطة كما تظن !
وقف مقابلا لي وتمتم بدهشة : أتدبر أموري ؟ أنا مشغول ولن أجد الوقت للبحث عن
منزل آخر !
سخرت بتهكم شديد وعاودت أجلس وأنا أضع ساقي على الأخرى : نعم مشغول جدا .. من
الذي كان في الملهى قبل أيام ؟ يا لك من كاذب ومستفز ! أراهن على أنك متفرغ كل
وقتك لدرجة شعورك بالملل من هذا الفراغ !
_ ماذا ؟ ألا يحق لي بالترفيه عن نفسي والتخلي عن همومي قليلا ؟ ثم لما تتحدثين
معي هكذا كما لو كنت تكرهينني بشدة وكأنني شخص لا يطاق !
_ ولماذا لا أكرهك ! أنت تثير غضبي ومظهرك يبدو مستفزا حتى أثناء صمتك !
ارتفع حاجبه الأيسر باستغراب فأكملت بامتعاض : نعم حتى ردة فعلك هذه تستفزني !
كل شيء بك يغضبني !
ضحك بخفوت ثم عاود يجلس ويقول ببطء : أرجو ألا أفقد ثقتي بنفسي !
أطبقت فمي أحاول جاهدة بأن لا أعلق..
انتفضت لسؤاله الجاد : كم عمرك ؟
أجبته بملل : لا شأن لك به ..
عاود يسألني بعناد واضح : هل تعيشين وحدك ؟
زفرت منزعجة : أنت تهدر وقتك !..
زم شفتيه مفكراً لهنينة ثم سخر متنهدا : يبدو ذلك فعلا ..
أشحت بوجهي وأمسكت الهاتف أحاول الاتصال مجددا وفغرت فاهي بدهشة حين سمعت بأن
الهاتف مغلق !
همست بتوجس وإمتعاض شديد : ما الذي يحدث !
رفع كتفيه بملل : سنحاول لاحقا .. ومن يدري ، قد يكون محتالا !
أملت برأسي : يبدو هذا ! لن أسامحه ان كان من النوع الذي يحتال على الناس ويهرب
بالنقود .. سوف أقاضيه بكل تأكيد !
سألني بهدوء : هل أخذت الشقة للعيش فيها مؤقتا ؟
رمقته بحيرة : ولماذا أجيبك ؟
اتكئ بمرفقه على الأريكة وهو يضحك : يا الهي .. لماذا هذا النفور والحذر الشديد
؟ الن تخبريني ؟، صدقاً لا تعامليني كمجرم مختطف يستجوبك بالإكراه !
تجاهلته وجلست بتعب ، القيت الهاتف على الأريكة فأتى صوته هادئا : يا آنسة ..
لن أستطيع مغادرة هذه الشقة انتظري إلى أن يجيب لنعرف كيف سنتصرف ..
حدقت به بتمعن وصمت حتى تمتمت : شارلوت ..
قطب جبينه بعدم فهم فأوضحت الأمر متنهدة بلا حيلة : إسمي هو شارلوت !
رسم ابتسامة مرحه على ثغره وتقدم نحوي مصافحا : آه شارلوت ! اسم جميل .. أنا
كريستوبال ، نادني بكريس فقط !
صافحته بتردد وقلت : لن أقول بأنني سعيدة بلقائك !
ابتسم بحيرة : يا لها من صراحة مرعبة !
ازدردت ريقي حين جلس بجانبي ، ولكنني تمالكت نفسي وسألته بثبات : يبدو أنك
تستطيع دفع مبلغ لقضاء ليلة في فندق ما .. فلم لا تفعل ؟
أجابني بهدوء مماثل : قلت لك إنها شقتي .. وللعلم فأنا ظروفي لن تسمح لي بقضاء
ليلة في فندق !
ثم سألني بفضول : هل تدرسين ؟
لم أجبه فقال : إذا تعملين ..
_ ألا تلاحظ ما الاحظه ؟
_ ما الذي تلاحظينه ؟
_ بأنك ثرثار وتتحدث كثيرا ! قرأت إحدى المقالات التي توضح ان المرأة تتحدث
أكثر من الرجل في الليلة الواحدة أضعافا مضاعفة ولكنني سأخبرهم بأنني وجدت من
كسر هذه القاعدة ويحتاج ليكون تحت الملاحظة ..
انفجر ضاحكا وكأنه مستمتع بغيضي ! فتظاهرت بعدم الإهتمام ووقفت وأنا أمسك
الحقيبة واتجهت لإحدى الغرف ووضعت حقيبتي على السرير أطلق نفسا عميقا هامسة
بتبرم : مزعج ! مزعج وثرثار !
علي أن أغير ملابسي ثم أبحث عن حل لأتخلص منه ..
حتى لو اضطررت للتبليغ عنه بتهمة الاقتحام !
نزعت المشبك فانسدل شعري الطويل على ظهري وارتديت ملابس بسيطة ، ثم حدقت بنفسي
بالمرآة بصمت وشرود ..
لا أصدق أنني ما ان ادخل الشقة التي سأستقر بها حتى أقابله مباشرة ووجها لوجه !
ثم ما الذي يفعله بهذه المدينة بحق الإله ؟ لا يجب أن أرخي دفاعه فهو شخص من
المستحيل ان أثق به ! ليس بعد ما فعله حتى ولو كان ثملاً آنذاك .. من يدري ربما
ما يفعله أثناء وعيه أسوأ بكثير .
ولم يسعفني الوقت لأندمج في أفكاري أكثر لأنني أجفلت وأنا أسمع صوت تصفير إعجاب
فاستدرت حانقة بشدة !!
كان يقف أمام الباب ويستند عليه بكل بساطة فصرخت بإنزعاج : كيف تجرؤ على الدخول
دون استئذان ؟
حدق بي بتمعن وقال بلامبالاة : إنها شقتي ويحلو لي بفعل ما أشاء فيها ..
قلت بحدة : ليست كذلك .. ولن تكون لك أبدا ! ما هذه الوقاحة بحق الإله !
اقترب مني فاتخذت وضعية الحذر وانا أرمقه بريبة وقلت : أتسمح بالخروج من فضلك ؟
رفع رأسه للأعلى متنهداً بعمق ثم عاود ينظر إلي باستياء : أنت حادة الطباع
كثيرا !
رطبت شفتي بارتباك ولكنني زمجرت بإنزعاج : ليس قبل أن أراك ! أنت تزعجني
وتستفزني جدا بتصرفاتك اللامبالية ..
أردفت : لماذا تبدو واثقا من نفسك جدا ومغرورا ومتسلط ولماذا تفرض سيطرتك
وتتصرف بـ..
قاطعني بذهول : أوه .. يكفي ! يكفي ! حسنا شكرا علمت بأنني شخص سيء ! يا للهول
..
لم أعلق وإنما افترش الصمت بساطه في المكان ولم أكن أسمع سوى صوت أناملي التي
اضرب بها بخفة على الطاولة بجانبي بترقب حتى كسر الصمت قائلا : هل لديك صديق ؟
هل أكذب وأقول نعم وبأنني سأتزوج قريبا جدا لأرتاح منه ؟ أو هل أقول بأنني
متزوجة ولدي ثلاثة أبناء !
ولكنني لست مضطرة إلى الكذب أمامه فهو لن يمكث هنا كثيراً !
أجبته بهدوء وأنا أتجاوزه للخروج من الغرفة : لا شأن لك ..
تبعني بيأس : ترددين هذه الجملة كثيرا ! لماذا تعاملينني بهذه الطريقة ؟
وقفت أنظر له بحيرة واستنكار مرددة : وكيف علي أن أعاملك .. لا .. بل كيف تراني
أعاملك ؟
_ بنفور شديد ، بانزعاج وغضب وحدة .. ألا اعجبك ؟
رمقته بدهشة أردد بتلعثم : ت .. تعجبني ؟!
أومأ برأسه بإيجاب وهو يرسم ابتسامة جانبية هادئة : نعم ؟!
أضاف متنهداً : لأنك تعجبينني كثيرا وتروقين لي نوعا ما !
فغرت فاهي استوعب ما يقوله لكنني انتفضت بارتياب واستغراب وأنا أسمع ضحكاته
التي تعالت في المكان !
_ م .. ما المضحك ؟
_ لقد كنت أمزح !
قالها بسخرية وعاود الضحك مجددا متجها لغرفته وهو يقول بتغطرس : لابد وأنك
صدقتي دعابتي تلك ! لو تري وجهك فقط .. وكأنك تسمعين اعتراف مشابه للمرة الاولى
في حياتك ! كان علي أن أجهز آلة التصوير على الأقل لـ..
واختفى صوته تدريجيا حتى غاب عن عيناي ودخل غرفته !
تـ .. تبا له ..
إنه يجيد ازعاجي بالفعل !!
لا أعتقد بأنني سأحتمله لدقيقة واحدة حتى ! أشعر بأنه سيتم الزج بي في السجن
قبل ان أمسك بشهادتي التي سعيت لأجلها !
أُجبرنا على انتظار السيد إدوارد ليومان متتاليان ..
ولكم ان تتخيلوا معاناتي ومقدار الاستفزاز وكمية الإزعاج اللذان سببهما لي ! بل
وشعرت برغبة في اقتناء درع اخذه معي في الشقة أينما ذهبت لأبعده عني فهو لا
ييأس من محاولة التقرب إلي او الثرثرة بشأن خصوصياتي !!
والمصيبة الأكبر والأهم ..
المدعو كريس لديه ورقة مطابقة تماما لورقة الإيجار لدي !
زفرت بغضب أتحرك ذهابا وإيابا : غير معقول .. لقد احتال علينا بالفعل ! فقط لو
أراه وأمزقه بيداي !
أردفت بحنق : كيف يجرؤ على خداعي ..
صرخت في وجه كريستوبال : كيف ؟ أخبرني !
أجفل بسبب صراخي والقى بقطعة البسكوت منتفضا ، ولكنه سرعان ما قال بإنزعاج :
لقد أصبت بالصداع لذا توقفي عن التحرك في كل مكان ! أكاد اتقيأ ..
جلست بإذعان وتعب ، ومرت دقائق حتى وقف ليقول بجدية مفرقعا اصبعه معلنا عن
إبتكار فكرة : وجدتها ..
رمقته بترقب فأكمل : لقد تذكرت للتو بأنني أخذت عنوان منزله .. حين طلب مني أن
أقابله هناك لأستلم المفتاح ، صحيح بأنني أضعت العنوان ولكنني .. اعتقد بأنني
اتذكر مكان المنزل ..
قطبت جبيني بإحباط : وتقول هذا الآن ؟ ما الذي تنتظره إذا .. لنذهب !
أكملت باقتضاب : لأنني لم أعد أطيق الجلوس معك دقيقة واحدة !
ثم وقفت متسائلة : هل تملك سيارة ؟
ابتسم بهدوء : كيف لي أن أملك واحدة ! ما كنت لأواجه صعوبة الحصول على تكاليف
سيارة لولا أنني أخوض الحرب الباردة هذه للحصول على الشقة !
ارتفع حاجباي بإستنكار حتى قلت مصارحة إياه بإستغراب : غريب ..
_ ما الغريب !
_ هل كنت تخدع كل الفتيات اللواتي يحطن بك بأنك ثري مثلا ؟
أردفت ساخرة : إلا أن كان مظهرك فقط هو ما يخدعهن لا أكثر !
ضحك بمرح : يعجبني تفكيرك آنسة شارلوت !
أضاف بغرور : الأمر بأنني أملك مهارة نادرة لا يتقنها سوى القليل من الناس فقط
!
أطلقت همهمة ساخرة : ثقتك هذه ستعميك يوما ما !
علق بنبرة مستنكرة : تعميني ؟ هل حقا لا تعتقدين بأنني جذاب المظهر !
تجاهلته وأسرعت بتغيير ملابسي ورفعت شعري الطويل وبقيت الخصل المتمردة تتناثر
حول وجهي ..
كان ينتظرني في غرفة الجلوس وما ان رآني حتى هممنا بالخروج ..
دخلنا الحافلة وأكثر ما أثار استغرابي هو ملامحه المترددة والمتحفظة ! ولكنني
لم أعر الأمر اهتماما خاصا وتجاهلته سواء كان متضايق أو لا .. لا يوجد أحد
متضايق أكثر مني هنا !
فهذا الشاب العملاق الواقف مقابلي لا يكف عن الالتصاق بي ! ما مشكلته تحديدا ؟!
سحقا له كم هو وغد وقذر ! حاولت الابتعاد ولكنني فشلت فأطلقت زفرة منزعجة بصوت
عالي محاولة أن أوضح له كم هو وقح ، ثم رمقته بغضب ولكنه لم يبالي ..
ثواني فقط ووجدت نفسي اسحب بقوة جراء يديدن امتدتا فجأة !
وجذبتني بقوة لأُحاط بذراعين قويتين ، علمت بأنه المتعجرف كريس وحاولت التملص
من بين يديه ولكنه همس بصوت خافت : على الأقل أفضل من أن يقوم شخص غريب مثله
بالالتصاق بك !
همست بغضب : ومن انت حتى لا تكون غريبا عني ؟ ثم من الواضح بأنك تقوم باستغلال
الأمر تماما .. لذا ابتعد حالاً !
ولكنه شدني بقوة وقال : سأتركك عندما يقوم أحد هؤلاء اللذين يحتلون المقاعد
كلها !
رصيت على أسناني متمتمه : أنا لم أطلب مساعدتك ، حتى مد يدك للعون يبدو لي
مستفزا جداً !
ولكنه لم يعرني إي اهتمام .. وباءت جميع محاولاتي بالفشل فاستسلمت بإذعان ،
وبعد فترة توقفت الحافلة ونزلنا وأول ما قمت به هو استدارتي نحوه بغضب وارتباك
، فبادلني النظرات بلامبالاة !
ما مشكلته تحديدا ؟
حبست أنفاسي واتجهنا نحو المنزل ، لقد كان منزلا كبيرا نسبيا ولكن مظهره بسيط
وجميل ، مطلي بطلاء أبيض وأحمر داكن ..
تقدم كريس ليقرع الجرس فانتظرنا ثوان ولكننا لم نجد ردا !
بعد دقائق من المحاولات المستمرة ، سألته بحيرة : هل أنت واثق بأنه المنزل ؟
بعثر شعره بإستغراب : نعم ! أنا متأكد من ذلك ولكن ..
أضاف محدقا بالنوافذ : هذا غريب !
قلت مفكرة : قد يكون العنوان خاطئا ! ربما أضعناه بالفعل ..
قطب حاجبيه : لا إنه المنزل ! أنا واثق من هذا ..
تنهدت بعمق هامسة : ما الذي يحدث ؟
انتظرنا واستمرت المحاولات حتى أننا كنا سنسأل أحد الجيران ولكننا لم نفلح في
هذه الفرصة لأن الجيران كذلك لا يجيبون ..
عدنا إلى الشقة بخيبة أمل ، لا أستطيع فهم ما يحدث ! اختفى السيد إدوارد والآن
لا يوجد أي شخص في منزله ..
القيت بالحقيبة ونظرت إليه بنفاذ صبر : اسمع ، أنت لن تمكث هنا فأنا لن أحتملك
أكثر ، جد لك مكانا حالا ..
رفع حاجبيه ثم سرعان ما قال بملل : لقد دفعت المال وبالكاد وجدت شقة مناسبة ،
وإن كان الأمر لا يعجبك فهي ليست مشكلتي آنسة شارلوت !
اندفعت أسأله بغيض : مما خلقت أنت ؟ ألا تشعر بالمسؤولية قليلا ؟
سألني بعدم فهم : أيراودك شك بأنني لست طبيعي ؟!
احتدت عيناي : أنت مختل !
ابتسم بمرح وهو يجلس : بصراحة لم أشتم من قبل بهذا القدر ولكن الأمر لا يزعجني
! وبالمناسبة ..
أردف متصنعا الاستياء : يؤسفني الرفض ، فأنا لا أنوي أن اتحمل مسؤولية أخطاء
يرتكبها غيري !
وجدت نفسي القي عليه الوسادة بغضب فضحك مستمتعا ، فزمجرت كالوحش الهائج الذي
هرب من وكره : ألا تجيد سوى الضحك والسخرية .. أيها الزير الأحمق؟!
أضفت بإنزعاج بعد ان لانت ملامحه وابتسم : سأحصل على وظيفة ، لنقل بأنني حصلت
عليها بالفعل منذ يومين ولكن ..
أكملت حانقة : لا أريد أن أخسرها حين يعلمون بأن الممرضة التي تعمل معهم تسكن
مع شخص منحرف أعزب غريب عنها تماما تحت سقف واحد ! إنه مشفى ضخم ذو سمعة طيبة
ولا يمكنني ..
لكنه قطع حديثي بهمهمة فهم وحيرة : إذا أنت ممرضة !
س .. سحقا ! لم أقصد إخباره فأنا لا أريد أن يعلم بأي شيء يعنيني ..
لو كنت أعلم ان فمي سيتفوه بمعلومات تخصني امامه لأغلقته تماما وخبأت المفتاح
في عمق اضخم محيط في العالم ..
أشحت بوجهي بإنزعاج بينما اقترب قليلا فعاودت النظر إليه، كان يحدق بي بنظرة
غريبة ولكنها لم تكن مرحةإطلاقا ، فارتخت ملامحي للحيرة!
اقترب أكثر وفاجئني بوضع يديه على كتفاي متمتما بهدوء : إذاَ .. قد تستطيعين
معالجتي ومساعدتي لأتخلص من مرضي ؟!
قطبت جبيني ورددت : أ ..أعالجك ! من ماذا ؟
أطرق برأسه لثواني ثم أجاب محدقا بي : لقد أجريت فحوصا وقال الطبيب بأنني أعاني
من ..
أضاف بتردد : مرض ملازم لي منذ الصغر ، بل منذ ولادتي ..وأعراضه واضحة يوما بعد
يوم ! ولا أعتقد بأن العلاج قد يفيدني حتى ، إنه السبب الذي جعلني أستأجر هذه
الشقة .. أردت أن أختلي بنفسي لبعض الوقت!
شعرت بوغزة بقلبي وانتابني شعور الشفقة ورمقته بضيق وهدوء وقلت : ولكن .. ربما
يكون تشخيص الطبيب خاطئ ! أوربما ..
_ أو ربما مزحة ؟
حدقت به بعدم فهم فأصدر صوتا ساخرا خافتا ولكنه سرعان ما انفجر ضاحكا مشيحا
بوجهه !
متمتما من بين ضحكاته : هذا ممتع جدا .. يا الهي!
استوعبت الامر فقلت بنفاذ صبر وسخط : أنت سخيف ! أتظن نفسك مضحكا ! الأمر ليس
ظريفا كما تعتقد .
أردفت ادفعه بعيدا : كاذب ..
_ هذا صحيح ، يخبرني الجميع بأنني أكذب كثيرا..
_ يوما ما لن تجد من يصدقك .. ستمضي حياتك كصاحب الخراف المغفل الذي أوقع نفسه
في فوهة الكذب ولقي حتفه بعد تخلي الجميع عنه .. فلتمت ..
قلتها بإنزعاج شديد ولكنني سرعان ما توقفت عن الحديث محدقة إلى الهاتف الذي قد
رن فجأة !!
نهـاية البارت الأول ..