الأحدث

رواية عذراً لكبريائي - الفصل 58 والأخير

وصف الرواية :
~ الـبـدايــة ~ رواية عذراً لكبريائي - الفصل 58 والأخير تنويه : تكملة للجزء الأول .. تــيــا : علي الجلوس معه قليلاً ولو لخم... [أكمل القرأة]
عرض فصول الرواية : عذراً لكبريائي
عذراً لكبريائي

~ الـبـدايــة ~

رواية عذراً لكبريائي - الفصل 58 والأخير

تنويه : تكملة للجزء الأول ..

تــيــا :

علي الجلوس معه قليلاً ولو لخمس دقائق قبل أن يعود إلى المشفى ، لم أنال كفايتي منه بعد ، أنا حقاً بحاجة إلى التحدث إليه .. ، تركت شارلوت مع والديها وكلوديا وكذلك ستيف وسام اللذان عادا قبل لحظات .. إيثان يجري مكالمة مع مقر عمله مع أن الوقت متأخر ، قال أنه مدير القِسم الذي يعمل فيه ولربما يكون أمراً مهما ، كما أخبرني أنه لا يستبعد ان يسأله عن وقت عودته وقد استقطع المزيد من إجازته السنوية وربما سيبلغ الحد قريباً ولن يتمكن من الإطالة هنا ..

أسرعت في خطواتي وأنا أصعد الدرج راغبة في الإتجاه إلى الجناح الذي تقع فيه غرفته ، ولكنني سمعت صوتاً خافتا في الجناح الآخر فغيرت وجهتي طالما الصوت مألوف ..

كما توقعت ، إنه جوش الذي يقف ويتحدث مع كريس أمام باب المكتب ، اقتربت منهما لأسمع جوش يقول بصوت منهك كمن خرج من ساحة المعركة : لا بأس ، ولكن ليكن في علمك أنني سأطالبك بإجازة لمدة شهر كامل وسأرتاح فيها من كل شيء ، وأخيراً يا رجل كدت ألفظ آخر أنفاسي بين جبال الملفات !

ابتسمت بلطف وتدخلت أقف بجانب كريس : ولا سيما وأنه كان مضطراً لمراوغة المزعج فابيان يومياً ، كل ساعة وكل دقيقة .. صباحاً ومساءً بلا كلل أو ملل ..

أردفت أوكزه بإمتعاض : أنا أيضاً كدت أتهور معه بسببك .. أتعلم انه قال بنظرة يملؤها التحدي بأنه سيضع مهلة أسبوع إن لم تعد فيها فسيتصرف تصرفاً آخر وسيطالب بكرسي الإدراة التنفيذية وينتزعه منك ؟

أغمض عينيه منزعجاً من ذكر إسمه وهمس : ذلك الكهل المنافق ، يبدو أن الكثير في انتظاري ..

ابتسم جوش وتحرك ليضرب ظهره بخفة : سأنزل لتحية والدا شارلوت ، كنت منغمساً في العمل ولم أحصل على فرصة لقائهم ..

نزل جوش في حين اتجه كريس إلى غرفته في الجناح الآخر فتبعته ، انتهى الأمر به ليدخل الغرفة ويضيئها متجهاً إلى الخزانة ويبدأ في وضع بعض الملابس في حقيبة متوسطة ، جلست على السرير أحدق إليه والابتسامة لا تفارق شفتي فقال منهمكماً فيما يفعله : هل آن الآوان لترحمي فكك قليلا ؟

نفيت بلا حيلة : أحاول أن أتمسك بالواقع ، لازلت لا أصدق أنك هنا .. كل شيء حدث فجأة !

رسم ابتسامة مضمرة وهو يخرج قميصاً أسوداً : لا تبالغي ..

زميت شفتاي واخذت الوسادة احتضنها أنظر إلى الحقيبة التي وضعها على السرير : وتجرء على أن تقول هذا ؟ كريس انت لن تفهمني مهما حاولت شرح نفسي ، عليك أن تستوعب أن الأخوة أمر مختلف تماماً عن الوقوع في الحب ، أحب إيثان كثيراً وفي المقابل أحبك كعائلتي المتكاملة بكل أفرادهما ، الوقوع في الحب لن يغني المرء عن حاجته الماسة إلى عائلة .. أن يشعر الإنسان بفقد أخيه فهذا كغرس سكين غير حادة في منطقة مميتة ، إنها ميتة بطيئة جداً تجعلك تنزف وتصرخ بكل ما اوتيت من قوة ، أنا جادة .. سأحرص على تذكيرك لاحقاً وفي كل فرصة أن تفي بوعدك لي .. إياك والإبتعاد مجدداً وتركي خلفك يا كريس ، أنا حقاً أفقد شهيتي تجاه هذه الحياة عندما تدير ظهرك لي ، إياك وأن تبث بي هذا الشعور الموحش مرة أخرى ، لا أخ لي سواك ، هذا العالم لم يمنحني سوى أخ واحد أستند عليه في شدتي ، ألجأ إليه في حاجتي وأضحك معه وقت المرح .. إن كنت تفهم ذلك فإياك وأن تجرؤ مجدداً ..

ابتسم دون أن ينظر إلي وقد اتجه إلى الخزانة مجدداً ولم يعلق ، مرت لحظات كنت أنظر إليه بصمت حتى همس : أربعة عشر عاماً .. كنتِ فيها الشقيقة الوفية والمخلصة ، لقد تحملتِ الكثير حقاً .. صبرتِ على شخصيتي المعقدة وعملت جاهدة على التقرب إلي .. دعيني أثني عليك لأول وآخر مرة على جهودك.

استدار ينظر إلي بنظرات دافئة جعلتني أبتسم بشرود ، كم هي نادرة هذه اللحظات الجميلة .. الواضحة والصريحة !

عاود يتجه إلى الخزانة وفتح أحد أبوابها التي تحوي على الأوشحة والملابس الشتوية ، لأقول بإهتمام : لم أتوقع أن شارلوت على دراية بمكانك ، أراهن على أن الكثير قد حدث .. ولكن هل حدث أمر مميز ؟

أمسك بأحد الأوشحة يحدق إليه قبل أن يتحرك بخطى بطيئة نحو الحقيبة وقال بنرة هادئة وصوت منخفض : لقد بحت لها بالكثير ، حتى بما كنت أهرب منه في نفسي .. لا أشعر بالندم ، بطريقة ما أرغب في قول المزيد لها .. أريد سماع ما تتفوه به من كلمات محفزة ، قد تعتقد أن كلماتها لا شيء أو محاولات فاشلة ، ولكنها لن تفهم .. أن كل كلمة تفوهت بها لا زلت أحتفظ فيها .. حتى أول الحروف التي خرجت من شفتيها في لقائنا الأول ، تفاصيل ذلك اللقاء بشكل دقيق لا تزال مرسومة في مخيلتي كما لو التقينا في الأمس فقط ، بطريقة ما أرغب في الإحتفاظ في هذا اللقاء لنفسي .. أخشى أنني سأنسى جزءاً مهما منه لو سردته .. فتضيع قيمته التي أشعر بها .

أي صوت هذا .. أي كلمات هذه !! من يتفوه بهذا العمق أمامي ؟!

كريس !!

شعرت بحرقة شديدة في عيناي إثر اتساعهما وقد همست بإسمه بتلعثم ودهشة ، ليكمل بشرود : من الصعب وصف ما يجول في خاطري ، أن يكون هناك أشخاص يرغبون في انتزاعي من العزلة مهما حاولت الإبتعاد ، أن يكون هناك أشخاص يفكرون بشأني في اللحظة التي أنسى نفسي فيها وأكون تائهاً بلا وجهة فيها ، أن أشعر بأن لي قيمة ولست نكرة كما كنت اعتقدت .. هذا الإحساس بات يسيطر علي الآن .. بطريقة ما أشعر برغبة في تجاوز حد الثقة وأقول للجميع أنني شخص مهم ، شخص لديه من ينتظرونه دائماً ، لديه من يسعى إلى إمساك يده حين يخفيها أو يحاول بترها .. شارلوت لم تقل ذلك حرفياً ولكن يبدو الأمر وكأنها تخبرني أن أهم شيء في هذه الحياة هو ضبط النفس وحسب .. إن إستقامت بالرغم من المشكلات فسأنجو مهما حدث ، وإن مالت .. فقد تستمر في الميل حتى تُكسر ويفوت الأوان .

رفع عسليتيه الشاردتان وقد زاد ذهولي برؤية التورد الطفيف الذي يعتلي وجهه وهو يهمس : تجعلني أدرك يقيناً ، أن في يوما ما .. قريباً أو بعيداً ، سأكون مسترخياً على الأريكة في مكان ما بكل أريحية أتذكر ما مررت به وأشعر بالفخر بقدرتي على تجاوز كل شيء وتخطي أي عقبة كانت في وقتها معضلة شعرت أن من المستحيل تخطيها .. وكأنها تحمل في جيبها دستوراً ينص على أن من يرى الحياة من جانب واحد فقط .. ففي اللحظة ذاتها يغادرها حاملاً حقائبه ومودعاً الكثير .. يودع الأيام المقبلة التي ستكون بلا شك سعيدة .. ويودع المستقبل الذي سيكون مشرقاً .. يوجد عقبات .. يوجد الكثير .. ولكنه سيكون مشرقاً مهما حدث طالما لا أنظر إلى الحياة بنظرة واحدة ، بسطحية ، وطالما لا أقع أسيراً للخوف أو اليأس !

أنا .. في عداد الموتى حقاً !! أ .. أقصد .. أن يقول كلمات كهذه ! أن يتحدث بكل شفافية وعفوية إلى هذه الدرجة ! ما الذي .. يحدث هنا تحديداً ؟!

يا الهي ..

السعادة سيطرت على كل خوالجي وها قد بدأت عيناي تذرفان الدموع ..

كم هو دافئ ..

كم هي دافئة كلماته وصوته ! ليتها كانت هنا لتسمع ما يقوله ! ليتها تفهم ما يشعر به جيداً تجاهها ..

_ يوجد شعور قد اختفى تماماً منذ أن تزوجت بشارلوت ، كان شعور غير مريح البتة ، ذلك الإحساس الذي ينتابني في أوقات متفاوتة ، أثناء الحديث ، الضحك أو حتى الغضب .. لماذا أتحدث ؟ ومن أكون تحديداً ولماذا أتحدث بهذا الأسلوب الغاضب أو الساخر أو حتى اللطيف ، من هؤلاء من حولي ! وكأنني أصبح فجأة غريب في عين نفسي .. بل وأتساءل إن كان علي إكمال ما كنت أقوله أو أضحك بشأنه أو أطفئ غضبي .. شعور بالغربة وسط الأشخاص المقربين .. وسط العائلة ! بطريقة ما .. لم يعد ينتابني منذ زواجي بها .. بدأت أرى موقعي جيداً وأدرك من أنا ، بل وأشعر الآن أن جميع ردود أفعالي المختلفة باتت واضحة ، لها أسباب ونتائج ..

أعقب يرسم ابتسامة مضمرة : رفضي للإعتراف لشارلوت ليس إلا نتيجة الخوف وحسب .. أخشى ذلك المبدأ كثيراً ، عندما يكتشف العالم أنني واقع في حب شيء أو شخص ما ، فسيتربص بي ويحاول بشتى الطرق الإيقاع بي ، اختطاف من أحب وأخذه بعيداً .. ، وليس الخوف من الإعتراف وحسب .. بل توتر غريب وفريد من نوعه .. وكأن صوت في داخلي يقول لي لا تكن أناني وتعترف لها فتقحمها في عالمك الميؤوس منه ! كنت دائماً منزعجاً من عجزي في التعبير عن مشاعري ، ومع أنني في البداية أوهمتها برغبتي في الزواج منها لأنتقم من عائلتها ، ومع أنني كنت أتظاهر بالنفور طوال الوقت .. ولكنها لن تستوعب كم كان هذا مرهقاً ، يثير غضبي ، منهكاً ويحتاج إلى طاقة عظيمة .. كنت لمجرد لمسها أشعر بإضطراب من الصعب انتشال نفسي منه ، تلك الساذجة .. لن تفهم كم كنت في كل لحظة أرغب في معانقتها بقوة ، مجرد مصافحتها .. لمس يديها .. كل هذا كان يدفعني إلى الجنون أكثر ، كنت ولو لثانية واحدة فقط أتمنى لو يعود كلانا إلى الأحمقان الصغيران فأستغل الفرصة وأتفوه بما لن يخطر على بالها أبداً .. أعبر لها عما أشعر به حقاً ! أخبرها أنني سألتقي بها مستقبلاً .. لذا كوني لي وأكون لكِ وليذهب العالم الى أعماق الجحيم ..

شعرت باندفاع الدماء نحو وجهي وقد شبكت أناملي ببعضها ، من يصدق أنني كنت سأسمع كلمات مماثلة كهذه من كريس تجاه الفتاة التي لم يتوقف عن حياكة الخطط بشأنها ..

نظرت إليه أتأمله بلطف وتمعن ليكمل بشروده ذاك مستغرقاً في كلماته وأفكاره يسند ظهره على الخزانة : كنت في البداية أتظاهر بكرهها ، بالحقد عليها .. لم تكن تدرك أن نظراتها المتحدية والحانقة نحوي تكسرني وأنا الذي أستحق هذا في الحقيقة ، بل كنت أقبلها وأفصل القبلة بنفسي فينتابني إحساس غريب .. كما لو كنت فصلت جزءاً من روحي وتركته تائهاً في مكان ما .. كنت أخشى نفسي .. أخاف أن أتمادى وأفضح نفسي لأصبح مكشوفاً وتتضح خبايا مشاعري ! عندما بدأت نظراتها تتغير تجاهي ، شعرت بأنها بدأت بالوقوع في حبي .. ومع أنه لا يوجد سبب مقنع أو واضح يجبرها على الوقوع في حبي وقد كنت أعاملها بطريقة سيئة متغطرسة ومهينة .. ولكنها قالت وبوضوح لاحقاً أنها لا تعلم لماذا أحبتني .. كم شعرت حينها برغبة في الصراخ وأخبرها أن ذلك قد حدث لأنني من أحبها أولاً .. لأن روحي الداخلية تحاول التواصل معها طيلة الأعوام السابقة .. أتساءل إن نجح ذلك الجزء من روحي في الوصول إليها بالفعل .. اعتَرَف لها فقبلت الإعتراف ووقعت في الحب فجأة .. ! هذا .. خيالي إلى درجة كبيرة .. اليس كذلك ؟

نفيت له بلطف واندماج : إطلاقاً .. بطريقة ما .. أنت تجعله منطقي جداً !

نظر إلي لهنية ثم رسم ابتسامة بالكاد تُرى وهو يحدق إلى الوشاح بين يديه هامساً : آن الأوان لأعود إلى المشفى ، حماس وانفعال غريب ينتابني وأنا أفكر بالأمور التي علي التحدث فيها مع جيمي غداً .. أعتقد أن القدر يمهلني فرص كثيرة وأنا الأحمق لا أبصر جيداً ولا أنكف أهدرها .. علي أن أكون متعقلاً أكثر .. ربما كل ما احتاجه هو الحذر فقط ..

أومأت له وأنا أقف أساعده في وضع بعض الملابس متمتمة بهدوء : كريس .. دعني أخبرك عن سؤال ظريف كنت أفكر فيه في مرات معدودة قبل سنوات عديدة ..

أنصت بإهتمام وهو يجلس على السرير وقد اكتفى من الأوشحة ، فوقفت ممسكة بالقميص الأبيض ووضعته لأغلق الحقيبة هامسة : سألت نفسي ذات مرة .. لماذا لم أقع أنا وكريس في حب بعضنا البعض ؟!

أضفت مبتسمة بلا حيلة : قد يكون السؤال سخيفاً الآن .. ولكنني أدرك أن السبب كان حاجتي الماسة إلى عائلة وحسب آنذاك ، رغبتي الشديدة في العثور على ظهر يحميني وكتف أستند عليه وقت حاجتي وصدر يمنحني الدفء عندما أشعر ببرودة وقسوة مشاكل الحياة .. البرودة التي يشعر بها المرء في عزلته ولن يتخلص منها ولو وضع على جسده عشرات الأغطية ..

ثم نظرت إليه لأجده يستمع إلي بصمت وتركيز وقد أومأ برأسه فاسترسلت أرفع كتفاي : في حين كنتَ واقعاً طوال الوقت في حب شارلوت وهائماً في عالم آخر ، لم يكن ينقصك أن تقع في الحب ولكنك كنت مشتتاً ولا تدري على أي بقعة في هذه الحياة تخطو كلتا قدميك .. أنا حقاً ممتنة لما تعرضتُ له من تنمر .. أعتقد أن لولا تجاربي المريرة لما التقيت بك .. لما طلبت مساعدتك والتصقت بك أينما ذهبت ثم وطدت علاقتنا ببعضنا ..

أغمض عينيه وأصدر زفرة ساخرة ثم رسم ابتسامة جانبية : ليس وكأن التعرض للتنمر أمر يُفتخر به حقاً ..

شــارلوت :

وها قد علم الجميع بشأن ضرورة عودتي إلى المنزل للدراسة ، نظرت إلى كلوديا التي تسألني بإهتمام ممسكة بكلتا يداي وقد أجلستني بجانبها : ستغيبين عنا حتى انتهاء الاختبارات !!

أومأت مفكرة : سأعود الليلة وسأباشر في الدراسة غداً صباحاً ، إنها أيام معدودة وسيبدأ الاختبار الأول ..

تساءل ستيف بحيرة : كم عدد الاختبارات !

تنهدت بلا حيلة : الكثير يا ستيف .. يوجد ما هو نظري وتطبيقي ويوجد ما هو كتابي فقط .. لو كان الأمر يقتصر على الأمور النظرية لكان الوضع أسهل بكثير ، حسنا لا أعتقد أنه من الضروري وصف ما قد تدرسه وتحفظه طالبة التمريض .. اليس كذلك ؟

اشمئز سام ينفي : يكفي .. بدأت فجأة أشم رائحة معقمات المشفى ..

علقت أمي بإهتمام : أظن بأنه علينا الاسراع يا شارلوت ..

تدخلت كلوديا بسرعة وقد تركت يدي : الاسراع بماذا ؟! العودة ؟

أومأت أمي فأسرعت كلوديا تقول معترضة بعبوس : سترحلون جميعكم !!

استرسلت بإلحاح : لماذا لا تبقين هنا يا ستيفاني أنتِ ومارك ؟!

تمتم سام على مضض : شكراً على ذكر اسمي ..

كتمت ضحكتي في حين نفيت كلوديا تحاوره : لم أقصد يا سام .. عليك أن تعود مع شارلوت لا يمكنك تركها وحدها ، كما انني لم أكتفي من الحديث مع والديك بعد ..! يمكنكما البقاء ، مارك إنها نهاية الأسبوع على أي حال ولا يوجد لديك عمل في الغد .. ستيفاني يوجد الكثير لنفعله هنا !

بدى مظهرها لطيفاً وهي تلح وتخرج المزيد من الأسباب من جعبتها لعلها تقنعهما ، ابتسمت اتبادل النظرات مع سام وستيف الذي قال بتململ : سيد مارك اقبل عرضها بسرعة وإلا استمرت لساعات متواصلة حتى تستسلمان ..

ضحك أبي باستغراب : ولكنها لم تمهلنا فرصة التنفس أصلاً ، كلوديا من قال بأننا سنرفض عرض مماثل !

أيدته أمي تتظاهر بالتفكير : سنبيت وننام دون التفكير بأي من هموم ومشاغل الحياة ، سنستيقظ لنتناول الفطور دون بذل أي جهد ودون رؤية سام .. إنه النعيم ..

رفع سام حاجبه الأيسر : عفواً ؟ آه .. تقصدين أن عدم رؤيتي أمر جيد لأنني أينما أتواجد سأفتح شهيتك لتناول المزيد من الطعام ، لا بأس يا أمي شكراً ..

شاكسته أغمز له باستفزاز : أواثق أنك لا تسد شهيتها ؟

جادلني بسخرية : اطبقي فمكِ يا شقيقتي وإلا عدت حالاً وحدي وتركتك هنا خلفي ..

تدخل ستيف بإنزعاج : هيه أنت .. عندما تعود إلى منزلك سأرسل لك إضافة لتنضم إلى فريقي إياك وتجاهل الإضافة وإلا دفعت الثمن ..

نظر الجميع إليهما بعدم فهم في حين فكر سام يضع ساقا على الأخرى : هل علي قبول الإضافة حقاً وأنزل من مستوى فريقي العظيم يا ترى ..

في هذه اللحظة دخل إيثان الذي أنهى المكالمة أخيراً وبدى أنه فهم ما يشيران إليه وابتسم بإستخفاف : أرجو ألا تدخل غرفتي وتعبث بحاجياتي ، أعلم أن سماعتك مكسورة والذراع بها خلل في التحكم ..

وضحت لوالداي وكلوديا : آه إنهم يتحدثون عن العاب الفيديو .. أمور تافهة لا تشغلو بالكم ..

نظر الثلاثة إلي فسرت القشعريرة في جسدي !!

بعدها نزل السيد جوش كذلك ليجلس معنا ، لذا الجميع هنا عدا كريس وتيا ..

لا بد وأنه يحزم أمتعته ، أتساءل إن كان علي البقاء هنا .. هل أصعد إليهما ؟

ولكن .. تيا تبدو مفعمة بالحيوية فجأة ولا بد وأنها تريد التحدث معه على انفراد ..

في النهاية كان قراري هو الصعود إليهما بعد بضع دقائق لأعطيهما المزيد من الوقت ..

وطبعاً الإنتظار لم يخلو من شجار لا أدري كيف نشب بين إيثان وسام ، ثم تحول إلى ستيف الذي يحصل على العتاب من جوش الذي قال بحزم : إنه الفصل الأخير في الجامعة أيها الولد الطائش ، عليك أن تحرص على رفع مستواك كما تعلم .

زفر ستيف بلا حيلة وإنزعاج : أبي أرجوك يكفي ! سيكون التسجيل مفتوحاً بعد أسبوع تقريباً لقد فاتني كما تعلم بسبب الظروف والآن من فضلك لنتحدث عن أي شيء في العالم عدى الدراسة حتى لو كنت ستجبرني على التحدث بشأن أمور تجميلية نسائية .. هذا أهون بكثير .

ابتسمت أمي بلطف : هذه الأمور من اختصاص جينيفر .. ليتها كانت هنا في وقت كهذا .

أومأت براحة : صحيح .. آه نسيت أن أخبركم أنها التقت بكريس قبل أن نعود إلى هنا ..

نظروا إلي بفهم ليقول جوش بوجه مسترخي وابتسامة امتنان : تلك المرأة .. لها فضل كبير ، لولاها لم علمتِ بعنوان كريس ..

وهكذا تشعبنا مجدداً في الكلام ، بعد لحظات وقفت معتذرة منهم راغبة في الصعود إلى كريس .. خرجت من الغرفة وأغلقت الباب خلفي ومع ذلك كانت أصوات الجميع تملأ أرجاء المنزل ويتردد صداها في كل مكان ، وبطريقة ما بدى أن الحيوية عادت مرة أخرى لأحضان المنزل ! كل ما ينقصنا هو عودة جيمي وحسب ..

صعدت الدرج ووجهتي الغرفة ، ذهبت هناك وطرقت الباب لأدخل ولكنني لم أجدهما ، دخلت أكثر لألمح الحقيبة على السرير فأيقنت أن متاعه في داخلها .. أين هما إذاً ؟ فكرت بحيرة وكدت أخرج من الغرفة ولكنني رأيتهما يدخلان وفي يد كريس ملفات كثيرة بينما تيا تحمل حاسوب محمول ..

ارتفع حاجباي وخمنت باستغراب : ستعمل على هذه الملفات هناك ؟

أومأ وهو يتجاوزني ليتجه إلى الخزانة بعد أن وضع الملفات على السرير ، بدى وكأنه يبحث عن شيء إضافي حتى أخرج حقيبة صغيرة سوداء اللون ويرتب الملفات ليبدأ بوضعها الواحدة تلو الأخرى وتمتم : سأحاول استغلال الوقت واقتناص الفرص لعلني استطيع انهاء ولو نصف الكمية ..

ابتسمت تيا تنظر إليه ثم وجهت حديثها إلي : سيقضي وقته مع جيمي صباحاً وعند نومه سيشرع في العمل ، أراهن على أن هذا ما ينوي فعله ..

طرفت محتارة ونظرت إلى كريس الذي رمقنا بنظرة خاطفة قبل أن يأخذ الحاسوب ويضعه في الحقيبة كذلك فقلت متنهدة : كريس لا تنهك نفسك ، حاول تنظيم الأمور وكل شيء سيكون على ما يرام .. بالمناسبة ماذا عن السيدة أولين ؟

أجابني مفكراً وهو يسحب جرار الحقيبة ليغلقها : سأطلب منها العودة غداً صباحا ..

أومأت بصمت ولم أعلق ، لترفع تيا يدها مشيرة بإبهامها نحو الباب : حسناً سأنزل حيث الجميع ..

خرجت وأغلقت الباب خلفها فاقتربت إليه أنظر إلى حقيبة الملابس والأخرى : ألا تعتقد أنك بالغت قليلاً في وضع الكثير من الملابس ؟ الحقيبة على وشك التقيؤ !

ابتسم بإستخفاف وهو يضع الحقيبتان على الأرض بجانب السرير : لا أريد الإضطرار للعودة إلى هنا في كل حين لأجلب ملابس إضافية ..

نفيت بلا حيلة وعاودت أنظر إلى الحقيبة ، ليردف متسائلاً : متى ستعودين ؟

_ بعد قليل .. سيمكث أبي وأمي هنا ، عمتك مصرة على بقائهما ..

_ ماذا عن سام ؟

_ سيعود معي .. المسكين سيكون مضطر لتحمل مسؤوليتي ..

قلتها ضاحكة بخفوت فارتفع حاجبيه : والآخر ؟

_ اسمه إيثان .!

أضفت متكتفة : لا أدري .. ربما سيعود مع تيا ؟

ضيّق عينيه قليلاً ثم أومأ بصمت فقلت أربت على كتفه بخبث : ماذا ؟ قلق من أخي عليها ؟ لا تنسى أن زواجهما قريب !

نظر إلى السقف بملل : لست قلق منه .. في الواقع ربما عليه ..

_ هاه !

_ تيا ليست الخجولة التي تعتقدينها ، في الواقع قد تكون من تبادر في زيادة عمق علاقتهما ، الم توضح والدتك أنها ترفض أي تجاوز للحدود قبل الزواج ..؟

أيدته بحيرة وتفكير: صحيح ! ولكن .. ربما لا بأس .. أعتقد أن مجرى علاقتهما جيد حقاً ..

عندما لم يعلق نظرت إليه بترقب فوجدته يحدق إلي ..

م .. ما هذه النظرات الآن !؟

ليت الأمر يقتصر على كونها نظرات عميقة ..

عينيه تتفحصني من رأسي إلى أخمص قدماي !! ازدردت ريقي أشتت انتباه نفسي وأنا أتأمل المكان مخففة من توتري ، ليهمس : متى ؟

طرفت بعدم فهم ونظرت إليه أعقد حاجباي : مـ .. متى ماذا ؟

قلّص المسافة بيننا واقترب ببطء يمسك بمرفقاي يقربني إليه ويدنو ليلامس جبينه جبيني : متى سنتجاوز حدودنا نحن أيضاً .. هذا الزواج يبدو كزواج أطفال سخيف .. حان الوقت لتنضجي يا شارلوت ، الا تتفقين معي ؟

معدتي ..

معدتي تؤلمني كثيراً !!

الألم يمتد إلى باقي أعضاء جسدي الذي يكاد ينهار !! أنا حقاً أستغيث ..

النجدة ..

أبعدت جبيني عنه بتوتر ولكنني لم أبعد يديه عن مرفقاي وقد همست بتلعثم وصوت متقطع أنظر إلى الأرض وخفقات قلبي تجاوزت الحد الطبيعي : توقف عن هذا ..

رسم ابتسامة جانبية وقد نال المكر من مقلتيه بعض الشيء ليتحدث بنبرة لعوبة خبيثة : اللعنة على اختباراتك وعلى الجامعة ..

شهقت رغماً عني بإحراج وزمجرت بإضطراب وصوت بالكاد يكون مسموعاً من بين صرخات قلبي : كريس هذا حقاً يكفي ..

_ ما الذي يكفي ؟

همس بها مقرباً إياي منه وقد انزلقت يده ليحيط بها خصري ورفع بالأخرى ذقني ينظر إلى عيناي مباشرة ، في وقت كهذا .. أنا أراهن بكل ما لدي أن العضلة التي تضخ الدماء في جسدي عاجزة الآن وقد أنهكها الخفق الجنوني ، أسرتها نبرته واكتفت من بذل كل جهدها ! حتى وإن تم بيعها في السوق السوداء فلن تأتي إلا بثمن بخس نتيجة تحولها إلى مجرد عضلة منهكة ! كما أن عيناي اكتفت من تأمل هاتين المقلتين الجذابتان ! أذني لم تعد تستطيع الصمود أمام صوته الهامس أكثر .. دقيقة واحدة إضافية وسأتبخر تماماً وأصبح في العدم ! ..

أنزلت عيناي أقطع خط التأملات بيننا ليأتي صوته يحثني على النظر إليه : لم تجيبيني بعد .. ما الذي يكفي ؟

عقدت حاجباي وعضيت على شفتي أرمقه بنظرات مشتتة ، لأهمس منزعجة من حرارة وجنتاي : أنت تتعمد فعل هذا .. تتعمد إحراجي بتلميحاتك المنحرفة ..

_ ولكنك زوجتي !

أردف يجبرني على الالتصاق به مقرباً إياي منه أكثر : يراودك شك أنكِ ستسمعين ما هو أكثر انحرافاً ؟؟ بربك ..

لا زلت أستغيث ..

هل من منقذ ؟!!

لا أستطيع الصمود أكثر ..

الدماء تغلي في عروقي !

_ كريس .. من فضلك !

ولكنه تجاهلني وقد انحنى يقبل جبيني ببطء لتستقر شفتيه قبل أن تنزلق نحو ثغري ، لأغمض عيناي وجفناي يرتجفان مستسلمة ، ليطبع على شفتاي قبلة أخذني دفئها إلى مكان بعيد ! قبلة لطيفة ازداد عمقها فرفعت يداي أحيط عنقه .. لحظات من غطاء دافئ على روحي ولمسات أنامله اللطيفة بين خصلات شعري الذي أسدله حتى فصل القبلة يحدق إلي بعين واهنة : رغبتُ في هذه اللحظة منذ زمن .. حتى عندما كنتِ فتاة قاصر .. لم أكن لأكتفي بقبلة غامضة عابرة قبل أربع سنوات .. شارلوت .. تـباً أنتِ تفقدينني عقلي ..

غاصت عيناي في عسليتيه أحدق إليه بضياع وشرود وبدوت كالمخدرة التي تهذي : أشعر بألم في صدري .. قلبي منهك لم أعد أحتمل .. كريس .. هذا حقاً يكفي ..

_ لما لا تبتعدين إذاً ..

_ لا أستطيع ..

_ ومن المفترض أن أبتعد أنا ؟ ..

ابتسمت رغماً عني بلا حيلة فعاود يقبلني وهو يجبرني على التحرك معه إلى الوراء ! لا أدري إلى أين يقودني .. ولا أريد أن أعلم .. أنا أسيرة .. روحي مكبلة بقيود تحيل بيني وبين العالم الواقعي .. لا أدري أين أنا ! أشعر أنني في أي لحظة سأفقد كل طاقتي وتخور قواي ، قدماي لم تعودا تتحملان كل هذا وباتت تعجز عن حملي ! نسق تنفسي يتسارع والخجل والتوتر يتنافسان أيهما أقوى ..

شهقت بذعر وقد أمسك بي يحاول إسنادي لأقف ولكن يداي كانتا تحيط بعنقه فوقع كلانا على الأرض بقوة !! ما الذي ..؟!

اتسعت عيناي ابعد يداي عنه بعدم فهم بينما تأوه بصوت خافت يعقد حاجبيه ويغمض عينيه يمرر يده اليمنى على ظهره فابتعدت عنه بقلق وعدم فهم !

ما الذي حدث تحديداً !! كيف سقطنا بحق الإله ؟!

أتى الجواب وأنا أستوعب أمر الحقيبتان اللتان وضعهما بنفسه على الأرض بجانب السرير ..

تعثر بها !!

نظرت إليه وقد فغرت فاهي قليلاً بحيرة وتشتت ..

ليرفع جسده عن الأرض هامساً بألم : لماذا يحدث هذا دائماً ..!

ابتسمت باستغراب حتى انفجرت ضاحكة : يا الهي .. الأهم من هذا ! هل كان لديك نوايا خفية ؟! إلى أين كنت تجرني بحق خالق الكون ؟!

أجابني مبتسماً بألم ولا يزال يمرر يده على ظهره : إلى السرير .. ربما ؟؟

تقطعت ضحكاتي بالتدريج وقلت أحاول السيطرة على نوبة من الخجل تكاد تقضي علي وأنا أوجه ضربة نحو صدره : تستحق هذا إذاً !

ظل على وضعه فأضفت بإهتمام : هل أنت بخير ؟!

تنهد وقد جلس نافياً : اكتفيت من هذه الحوادث السخيفة ..

_ كيف هو ظهرك ؟ هل أصابك مكروه !

_ اخلعي قميصي وعيّني الإصابة بنفسك ..

_ اذهب إلى الجحيم ..

ابتسم في حين أشحت بوجهي بإنزعاج ووقفت متكتفة : ما الذي تنتظره ؟! لننزل حيث الجميع ، كما أنك تعلم أن أفراد عائلتك تحب اتباع أسلوب المداهمات هنا .. لا أظن الخصوصيات ورادة ..

قلت جملتي الأخيرة ممازحة فقال يقف ببطء : لا تقلقي سنخلق الذكريات الخاصة في منزلي على الشاطئ ..

_ سحقاً يا كريس لم يكن هذا ما أقصده بكلامي !!

تجاهل غضبي وأغمض عينيه يجلس على السرير يمرر يده على ظهره ، جلست بجانبه وقلت بهدوء : يوجد أمر لطالما أردت قوله لك ..

أومأ يترقب ويبتدرني فقلت أهز قدماي مخففة من توتري وحدة أعصابي : إنه بشأن ذلك اليوم .. تصرفت معك بلؤم ورفضت سماع مبررك بشأن حادثة رين .. أشعر بالإشمئزاز من نفسي كلما تذكرت الأمر ولا سيما بعد فهم ما حدث تحديداً وما دفعك لفعل ذلك .. أنا حقاً .. أردت أن أعتذر عن ردة فعلي و..

_ يا للسخف ..

نظرت إليه بحيرة وضيق فتمتم بملل : ظننت في جعبتك أمراً مهماً ..

_ كيف لا يكون مهماً ! كنت .. لئيمة قاسية ! كان علي سماع مبررك وقد حاولت بنفسك توضيح الأمر لي ، أشعر بالغضب كلما تذكرت شعوري بالخوف والجزع ..

رسم ابتسامة مضمرة وهو ينظر للأمام بصمت وبدى يفكر قليلاً قبل أن يرفع كتفيه : فليكن .. أظنها ردة فعل طبيعية ..

نفيت برأسي بإنزعاج ويأس : ليست كذلك ..

_ دعي هذا الهراء جانباً .

أضاف يرمقني بطرف عينه : لدي ما أوضحه .. لا أريد التعرض لأسئلتك وثرثرتك لاحقاً لذا أنصتِ لأنني سأقولها بسرعة لأنهي كل شيء ، تلك الكلمات التي تفوهت بها تلك الشقراء المختلة .. أنا لم أتفوه بحرف واحد مماثل لها ، لقد لجأت بنفسها إلى استراق السـ..

قاطعته أرفع كلتا يداي بسرعة : لا تكمل .. لا أريد سماع مبررك !

اتسعت عينيه بعدم فهم : ماذا؟

_ أ .. أقصد ..

تمالكت نفسي أكمل بتلعثم وقد تمكن الخجل مني أبعد عيناي عنه : بدوت صادقاً جداً عندما قلت تلك الكلمات لي ، كنت سعيدة جداً ولم يسعني العالم كله ، لا يهمني نوع الحيلة التي لجأت أوليفيا إليها لتزرع الشك بي تجاهك ولكن لم يعد هذا مهماً حقاً لذا لنتجاوز الأمر فقط ، أنا أثق أنك لم تقل لها أمراً مشابهاً .. وحتى إن فعلت .. فأنا أفهم جيداً أنها من تقلب الطاولة لصالحها ببراعة ، في جميع الأحوال .. سأحتفظ بتلك الكلمات في رأسي وسأخلدها في ذاكرتي ..

أصدر زفرة ساخرة فنظرت إليه باقتضاب ، بعثر شعري بقوة فأبعدت يده منزعجة متوترة ليبتسم : إذاً هذه بتلك هاه ؟

أومأت له ابتسم بهدوء وأنا أرتب شعري : نعم .. هذه بتلك ..

_ هنيئاً على النضوج الفكري ..

_ اخرس !

ضحك بخفوت ورتب مظهره ثم أخذ شهيقاً عميقه وزفره ببطء .. نظر إلى الحقيبتان على الأرض ثم بدى وكأنه تذكر أمراً وأسرع ينظر إلي بجدية مفاجأة ..

ارتخت ملامحي باستغراب : مـ .. ماذا ؟

رفع سبابته نحو وجهي وضيق عينيه بحزم : أنا أحذرك ..

عقدت حاجباي منزعجة من نبرته : هاه !

_ أحذرك أن تبعدي تركيزك عن أي شيء آخر عدى دراستك في الأيام المقبلة ..

_ وما الذي سأذهب لفعله سوى الدراسة يا فهيم !

_ كوني واثقة أنني لن أتهاون معكِ يا شارلوت ، ان اشتم أنفي محاولة احتكاك ذلك الجار الأشقر بكِ ، أنا حقاً لن أكون لطيفاً إن اكتشفت أنكِ تمضين أوقات فراغك معه ..

اتسعت عيناي بدهشة : جوردن ! لماذا تذكره فجأة ؟!

ثم أبعدت سبابته بعيداً عن وجهي بغيض : قلتها بنفسك أيها الذكي .. إنه جار ! أي أن احتمالية لقائنا واردة جداً ..

_ لا تسمحي له بالدخول إلى المنزل ، هل هذا صعب حقاً !

_ سام سيكون برفقتي !

_ وماذا لو كان في الخارج في وقت يطرق فيه ذلك الأشقر المزعج على الباب؟

رفعت كتفاي وقد بدأت أرغب في اتلاف أعصابه : ليس في اليد حيلة ، لم يقم والداي بتربيتي على الإساءة إلى الجيران ..

احتدت عيناه بتحذير ثم سرعان ما تلاشى ذلك التعبير وحل مكانه الهدوء وقد ابتسم بفتور : حينها لا تلوميني على فشلك في الدخول إلى قاعة إعادة الإختبارات ..

طرفت بعدم استيعاب قبل أن أفهم تهديده المتعجرف والمتسلط وصرخت بحزم : كيف تجرؤ !

جيـنيـفـر :

هذا الصمت خانق بحق !! هل ينوي التزام الصمت طويلاً ؟

رفعت يدي أمررها في شعري الأسود وأختلس نحوه النظرات بطرف عيني ، بدى أنه شعر بذلك فبادر يقول بهدوء : ما الذي تنتظرينه ! انزلي يا جينيفر علي العودة إلى المنزل ..

لويت شفتي بتردد : رين .. لم تتحدث بكلمة واحدة منذ أن اعتذر لك ، هل حقاً ليس لديك ما تقوله ؟ أقصد .. كان الأمر مفاجئاً ولا ألومك في التشتت ولكن هل تنوي ا..

_ انزلي ..

تكتفت بانزعاج ولم أتحرك قيد أنملة ، كيف أنزل وهو يبدو غريباً هكذا منذ خروجنا من المشفى !

لا يمكنني لومه ولكن علينا على الأقل أن نتحدث بشأن الموضوع وننهيه ! لا أقصد انهاؤه وإغلاقه ولكن أن نتوصل إلى نتيجة الآن على الأقل حتى تتضح معالم الموضوع بدلاً من كونه ضبابيا هكذا ! فلا زلت لا أدري هل أعود إلى عملي مرتاحة البال أم لا !

نظرت من خلال النافذة ونزعت حزام الأمان لأخذ كامل حريتي وراحتي على المقعد هامسة : كريس بدى غريباً حقاً ، أكثر هدوءاً .. أقل حديثاً ، متزناً بشكل ملحوظ .. بل واعتذر بصورة مفاجئة دون مقدمات ، بصراحة ظننت الموضوع سيأخذ وقتاً أطول حتى يقتنع بضرورة الاعتذار ولكنه بادر من تلقاء نفسه ، رين عليك أن تتجنب تجاهل اعتذاره ، لم يكن بالأمر الهين عليه ليقولها أمامنا كما تعلم .. أيضاً .. ماكس أراد عودة علاقتكما كما كانت لا تخبرني أنك تنوي تجاهل رغبته الأخيرة !

أغمض عينيه وهو يزفر منزعجاً وقد رفع مرفقه يسنده على النافذة التي فتحها وتمتم : ما فائدة الاعتذار الآن ؟

_ صحيح بأنه تأخر كثيراً ولكن هذا لا يغير حقيقة اعتذاره !

أعقبت بجدية : كما أنه يملك أسباباً ، من يدري يا رين قد يكون قادراً يوماً ما على البوح بهذه الأسباب طالما الموضوع يمسك بشكل مباشر !

نفي وقد تملك الغضب منه : أخبر تلك الثرثارة ببساطة في حين يخبرني ألا أنتظر أي تسويغات ملائمة ، ما الذي يعنيه هذا بحق الإله !

_ ومن قال لك أنه أخبرها ببساطة ؟! من قال أن البوح لها كان سهلاً بالنسبة له ! أراهن بكل ما أملك أنها تعبت كثيراً حتى تفوه بهذه الأسباب المجهولة ! بل أنها بلغت حدود صبرها حتى شاركها بالأمر يا رين ! ليس وكأنك لا تعلم كم هو عنيد مزعج ذو رأس متحجر !

_ أياً يكن ..

استرسل ينظر للأمام بعين ضيقة : لا اعتذاره سيحل مشاكلي أو سيخلصني من مخاوفي ، ولا رغبة السيد ماكس ستعيد المياه إلى مجاريها ..

_ أنت تعقد الأمور أكثر مما ينبغي ..

أردفت أنفي برأسي وأعتدل في جلستي : ثم اليس من الواضح أن كلماته حملت معاني كثيرة ؟ ألم تقرأ ما بين السطور ! هل حقاً لم تشعر بأنه يرغب أيضاً في أن تعود علاقتكما الأخوية كما كانت ؟ لا يعقل أنك لم تستشعر هذا ولو قليلاً ؟!

فتح فمه ليعترض ولكنني أكملت بحزم : هل نسيت كم صبر على خبل شقيقتك يا رين ؟ هل نسيت كبته لهلعه طيلة السنوات الماضية وتستره على أفعالها به منذ صغره ؟ هل فقدت ذاكرتك ونسيت أيضاً تلك الحادثة المشؤومة ؟ ما رأيك بعلامات الجودة الفنية والرائعة على ظهره بسبب شقيقتك وخالتك ! ولا تخبرني أنك نسيت أيضاً اتهامات والدتك له بشأن انتحار باتريشيا ! لطالما كان يصمت ويصبر يا رين ولطالما كان يطبق فمه لئلا تتأثر علاقتكما ولكنه تهور وحسب وقد فاضت آلامه !

ظهرت تقطيبة بين حاجبيه وقد برزت عروق عنقه كما لو كان سينفجر في أي لحظة ! ومع ذلك أكملت بصوت أجش : لا تريد مسامحته ولا تريد فرصة أخرى ، ترفض أن تعترف بمشاعرك لي لنتواعد وترفض كل شيء قد يعيد تلك الرابط اللعينة التي جمعتنا نحن الثلاثة ! حتى وإن كنتُ مثابرة .. لا تعتقد أن صبري ليس له حدود ! أنا لا أريد أن أبدو كامرأة تفرض نفسها عليك ! ، إن كنت لا تزال حبيساً لمخاوفك التي تعجز عن التخلص منها فأعدك أننا سنجد حلاً ! وإن كنت ترفض مواعدتي بسبب عائلتك فأقسم لك أن الأمر أبسط بكثير مما تعتقد ! أنت تعزل نفسك دون أن تعي ذلك ، تبعد نفسك عن العالم وتعتقد أنها الطريقة المُثلى لتحمي الآخرين ..

أخفض عينيه وقد زم شفتيه بقوة ، وجدت نفسي أتنهد بلا حيلة وأرجعت رأسي للوراء أسندها على المقعد : لأول مرة أشعر أن الأحداث والأوضاع لا تسير كما أرغب .. يبدو أنه قد آن الوقت لأستوعب أن ليس كل ما نرغب به نجده ، ليس كل من نتمنى تواجده إلى جانبنا سيفهم أهميته في حياتنا .. على أي حال ربما ستشعر بالراحة في الأيام القادمة ، سأعود إلى عملي ، اعتذر كريس لك ويرغب في تحقيق رغبة ماكس أيضاً .. ربما سأترك الباقي له ..

التعامل مع رين منهك ، التعامل مع عقله مهلك حقاً .. سأمهله فرصة أخيرة ، إن استغلها فكان بها .. وإن رفض ..

فأنا أيضاً علي التعقل قليلاً والتوقف عن فرض نفسي في كل حين ، ومع أنني واثقة أنني سأنهار وأبكي وأزعج المنزل بأكمله ولكنني بلغت حدي في محاولة التقرب إليه ، لدي عملي ولدي شؤون علي التركيز عليها ! يا الهي لماذا علي أن أتألم هكذا بسبب هذا الوغد اللطيف ..

رمقته بنظرة خاطفة وتنهدت : سأنزل .. كما سأبدأ في توضيب حاجياتي لأعود للعمل ، لذا قد لا أكون قادرة على ازعاجك في الغد ..

رفع حاجبيه وقد لمع في زرقتيه بريق استنكار : بهذه السرعة ؟

طرفت ببلاهة ولكنني تمالكت نفسي وتظاهرت بالحزن والهدوء : أخبرتك أنه لدي عملي بالفعل .. كما قررت هذا حقاً ، سأتوقف عن فرض نفسي وإزعاجك .. لا يوجد مواعدة بالإجبار .

ر .. ربما علي التراجع قليلاً عن فكرة التخلي عن المحاولة .. اليس كذلك ؟

محاولة أخيرة ؟

أخفضت رأسي بشجن وقد ذرفت بعض الدموع التي تلألأت في عيناي ورفعت يدي أمسحها هامسة بصوت تعمدت جعله مرتجفاً : أردت أن أشكرك على الأوقات التي أمضيناها معاً بعد كل هذه السنوات ، كما أعتذر على إثارة الزوبعة من حولك ، وأيضاً ..

ابتسمت من بين دموعي التي تنهمر وهمست بإمتنان : شكراً جزيلاً لمنحي فرصة تجربة ما يعنيه الوقوع في الحب .. حتى وإن كانت تجربة مريرة مؤلمة .. تظل جميلة .. عميقة إلى درجة خيالية ..

اتسعت عينيه بعدم تصديق وبدى التوتر يجتاحه بوضوح ، بللت شفتاي وارخيت ملامحي لأعيد شعري خلف أذني وقد جعلت من يدي ترتجف وأنا أمسك بيده اليمنى : هل أقول وداعاً الآن ؟

أخفض عينيه نحو يداي اللتان ترتجفان ، كدت أنسى نفسي وأبتسم بخبث ولكنني أسرعت أطرق رأسي لأرفع يده نحو ثغري ..

استقرت شفتاي على يده الدافئة فبدى مندهشاً وهو ينتزعها بسرعة وينظر للأمام وازدرد ريقه ، قلت بصوت منخفض وأنا أفتح الباب : وداعاً ..

وضعت حقيبتي على كتفي وتعمدت أن أبطئ في تحركاتي ، فتحت الباب وقد كنت مستعدة للخروج وشيء من الخيبة اجتاحني ، ربما فشلت خطتي الأخيرة .. اللعنة على هذا الأشقر الذي استنفد قائمة خططي واستخدامي المفرط لأنوثتي الطاغية ..

طرفت بعدم استيعاب عندما أمسكت يده بذراعي يستوقفني ويجبرني على الجلوس مجدداً ، نظرت إليه باستغراب : رين ؟

عض على شفته بغضب وحدق إلي بتمعن ، أبعد عينيه قليلاً ينظر بعيداً ثم تمتم على مضض : إلى اللقاء .. وليس وداعاً ..

_ هاه !

_أقصد .. ربما نلتقي مجدداً ! اليس هذا وارداً ؟!

هه .. الخطة الأخيرة دائماً ما تكون أكثر تأثيراً ..

كم هو ساذج بريء ..

ابتسمت له بلطف وحزن : لم أطلب منك مواساتي ، تعلم جيداً أنني امرأة قوية .. لا تقلق بشأني ، سأمضي قدماً ..

أبعدت يده عني برفق وأكملت بهدوء : قد يكون درساً قاسياً لي لأتعلم ، رفضت الكثير من الرجال وربما حان الوقت لأفكر بروية قبل اتخاذ القرارات المصيرية ..

أومأت برأسي مردفة بلطف : لذا شكراً .. لن أعترف بالفشل في حياتي ، وإنما أؤمن بعدم توفر الحظ في نقاط معينة وحسب .. ألم أخبرك للتو ؟ ليس كل ما نرغب به نحصل عليه .. لا بأس ..

ارتخت ملامحه كثيراً وعينيه تجوب على وجهي وبدى تعبيراً جلياً على وجهه يرفض كلماتي بوضوح !

ظل يحدق إلي بصمت فتأهبت للخروج حتى قال بسرعة وبإندفاع محاولاً أن يبدو هادئاً : أ .. أحياناً لا نحصل على مبتغانا من بضع محاولات ، ربما علينا المحاولة أكثر و .. اقناع الطرف الآخر مثلاً ! لا أتحدث عنكِ ولكن .. عليك أن تعي هذا جيداً في حالة حصولك على فرصة أخرى .. أنا لا أشير إلى نفسي طبعاً فعلاقتنا مستحيلة ، ولكن .. أحاول قياس الأمور لتقريب الصورة فقط ..

سحقاً .. أكاد أعانقه !

كيف يكون ظريفاً ولطيفاً هكذا فجأة بحق خالق السماء ؟!

جزيت على أسناني أتمالك نفسي فأردف بهمس يمرر يده في شعره وبدأ يتلعثم ويتعثر في كلماته : سمعت أن الحب الذي يدوم منذ الطفولة من المرجح أن يستمر لوقت طويل ومن الصعب إخماده بسهولة ، الظروف دائماً تقف في الطريق المعاكس وتعيق نمو هذا الحب ، كما سمعت أن لجوء أحد الطرفين إلى إيقافه قد يعود بالسلب على مستقبله ليواجه مشاكل إجتماعية و ..

_ حقاً ؟ ممن سمعت ؟

رفع كتفيه : إحدى الدراسات ..

_ دراسة من جهودك الخاصة ؟

زمجر بحزم : كفاكِ سخفاً ..

كتمت ضحكتي بصعوبة بالغة وأنا أومئ برأسي بيأس أتظاهر بالشرود : ليس بالضرورة أن يستمر حب الطفولة ، طالما لا يتعاون الطرفين على ذلك .. على أي حال .. عمت مساءً ..

ابتسمت له بأسى وخرجت من السيارة متنهدة بعمق أجر خيبتي بعد ان فشلت في تحقيق رغبتي في سماعه يستوقفني !

ولكن تلك التنهيدة قد تحولت إلى شهقة عميقة عندما رأيت الكيان الواقف خلفي !!

اتسعت عيناي بذعر وعدت لأجلس رغماً عني متسمرة في مكاني أواصل التحديق إلى الجسد الواقف أمامي ..

لـ .. لحظة ..

هل هذا تأثير ظلام الحي مقابل انعكاس الإضاءة الصادرة من عمود الانارة في الأعلى أم .. واقع !

لا يمكن ! هذا غير معقول ..

بعد كل هذه السنوات ؟!

تطل بأناقتها التي لطالما اعتدتها !! ، ترفع شعرها الأشقر وتقف بثبات وعينيها تحدقان إلي ببرود .. جفاء .. حزم وكراهية ! لهيب عينيها الزرقاء بدى قديماً وقد تجدد الآن فقط ! .. لماذا الآن ؟ وهل أصدق ما تراه عيناي أم أغمضهما لعلها تختفي ؟ ولكن كل هذه الآمال قد تبددت حين همس رين بدهشة : أمي !

ليست خيالاً ! عقلي لا يتوهم وعيناي لا تكذب .. ، ولكن .. لماذا !!

لماذا تظهر نفسها أمامي بحق خالق الجحيم !

بأي حق ومن أين لها بهذه الجرأة ؟!

_ هل يستدعي وجودي كل هذا الشحوب !

تساءلت بصوتها الذي أعاد لي عشرات الذكريات الخانقة ، وقد رسمت على شفتيها ابتسامة هازئة مستعلية وهي ترمقني بطرف عينها كما لو كنت مجرد حشرة تستحق السحق ! ، طرفت ببطء ورفعت يدي بتلقائية نحو وجهي أحك أنفي ..

ليأتي صوت رين الذي ترجل من السيارة : ما الذي تفعلينه هنا !

اقترب منها ليقف بجانبها باستنكار شديد ، بل بدى غير مستوعب وهو ينظر خلفها يبحث بعينيه وادركت انه يستفسر بصمت عن أي سيارة وما شابه .. لتستقر عينيه على سيارة سوداء كانت متوقفة في زاوية بعيدة قليلاً بجانب الفيلا المجاورة على بعد منزلين ..! سحقاً .. منذ متى وهي هنا وكيف لم نلاحظ وجودها !!

ث .. ثم لحظة !

كيف تجرؤ على التحديق إلي بهذه النظرات ! وكيف أجلس هكذا بكل ضعف واستسلام أصلاً ؟!

شعرت بالغيض يجتاحني ولا سيما حين نظرت إلى رين بعين باردة وتمتمت بنبرة لم تخلو من الإزدراء : يا لذوقك الرفيع يا عزيزي ..

أغمض عينيه وقطب حاجبيه بإنزعاج شديد قبل أن يزفر محاولاً تهدئة الوضع وقال بهدوء يجوبه شيء من الحدة : عن أي ذوق تتحدثين ، كنت أوصلها وحسب ..

ظلت تنظر إليه وتتمعن في ملامحه حتى رفعت حاجبها الأيسر هامسة : توصلها وحسب ..

أصدرت زفرة ساخرة ونظرت إلي بجفاء واشمئزاز قبل أن تردف مقتربة منه بضع خطوات صغيرة : توصلها إلى أين ومن أين تحديداً ؟

نظر إلى الفراغ ولا زال يبدو منزعجاً كثيراً ليجيب على مضض : صادف أننا التقينا في أحد الأماكن وأوصلتها فقط ..

عضيت على شفتي بحنق وقد وقفت متكتفة بحزم : هل من اعتراض يا ترى ؟

رمقني بتحذير فتجاهلته ، نظرت إلي بطرف عينها ببرود مريب قبل أن تبتسم نافية : أراهن على أنكِ تحلقين من شدة السعادة عزيزتي جينيفر .. هل ذهاب ابني لأخذك من إحدى الحانات ثم الذهاب سوية إلى شقة والبقاء فيها لما يقارب الساعة والعودة معاً إلى هنا أمر لا يدعو لأي اعتراض ؟

هـ .. هاه !!

بدى رين مذهولاً في حين تمالكت نفسي وحافظت على هدوء أعصابي وضيقت عيناي بشك : ملمة بالكثير .. هل كنت تراقبيننا ؟!

علق رين بعدم تصديق : لماذا ! منذ متى بحق الإله !

أغمضت عينيها ترخي ملامحها قليلاً ثم نظرت إلي بجمود للحظة قبل أن توجه حديثها إليه دون احالة نظرها عني : أخبرني .. ما الذي كان من الممكن أن يحدث لو لم أظهر نفسي ؟ هل كنت سأشهد على موقفاً عاطفياً جميلاً ومؤثراً ؟

أضافت مبتسمة بفتور شديد : هل كانت العازبة ستجد أخيراً رجلاً يخلصها من عذاب العنوسة وكابوس الوحدة ؟ هل كانت ستغرس أنيابها في عنق ابني لتنقض عليه وتضمن حصولها على مبتغاها يا ترى ! هل اكتفت كونها مجرد عازبة تلهث خلف الرجال وقررت الاستقرار أخيراً ؟! جَره من الحانة ثم إلى الشقة وإلى منزلك .. ألا تخجلين من نفسك ولو قليلاً ؟

م ..

ما هذا !!

ما الذي أسمعه بحق الإله !

_ عدتِ مجدداً والتقيت بابني واعتقدت أن التسكع معه أمر ممتع وفرصة جيدة هاه ؟

زمجر بحدة : أمي هذا يكفي ! لم تكن لتفكر بهذه الطريقة ، كما أنكِ تسيئين الفهم وحسب ! لا أنا أو هي ننوي خوض علاقة كهذه كما لم يحدث بيننا أي شيء مماثل لذا توقفي !

ولكنها رفعت يدها تستوقفه والابتسامة لا تزال تعلو ثغرها الذي تحرك بثقة وسخرية : أنتِ حقا لا تختلفين عن ذلك الجبان الداعر ، كلاكما مجرد وصمة عار من الضروري محيها ، أخبريني يا جينيفر .. كيف تعتقدين رين قادر على تعويضك على هدر شبابك التعيس ؟ أنا حقاً أسأل من باب الفضول لذا أجيبي لعلني أفهم ..

اهدئي .. ارخي اعصابك يا جينيفر .. إنها والدة رين في النهاية !

إنها والدته .. و ..

ولكن !!

الهواء ثقيل !!

ثقيل إلى درجة لا تطاق !

الأرض لا تبدو ثابتة أسفل قدماي ، يوجد لهيب يحرق جوفي !! الغضب تمكن من بصري ويكاد يعميني ، أشعر أنني لا أرى أي شيء سوى العتمة !! أسناني تكاد تتكسر من قوة إحكام غلق فكي الذي يرتجف ، وأظافري غُرست في باطن كفي وقد كورت قبضتي بقوة ..!

أخفضت رأسي أتنفس بنسق غير منتظم وقد سمعته يقول بصوت أجش : قلت لكِ كفى!

ولكنها تنهدت وتساءلت بحيرة : كفى ؟ آه أنت لم تخبرني .. ما الذي من المفترض أن يعنيه خروجكما من الحانة معاً وذهابكما إلى الشقة ؟

_ كنت أساعدها وحسب !

_ الن تتوقف عن المراوغة ؟

" كيف تجرؤين .. "

همستُ بها وشفتي ترتجف إثر سيطرتي على سخطي بصعوبة ، رفعت رأسي أنظر إليها بحقد فقابلتني بابتسامة باردة مترقبة ، لأصرخ بغضب : كيف تجرؤين على التقليل من شأني ! من سمح لكِ بمنحي دور المرأة الرخيصة ! من أي لكِ الحق في التدخل في شؤوني ! من تعتقدين نفسك يا فيكتوريا ؟!

ارتجف فكها دلالة على اكتفائها من التبسم في وجهي فأعقبت بحنق وأنا أغلي واللهيب يحرقني أكثر : حتى لو قام بأخذي من الحانة ، حتى لو مكثت معه في الشقة ، ما الذي تريدينه مني مجدداً ! هل هكذا تتسترين على أخطائك وعيوبك ؟ هل هذه هي الاستراتيجية الذكية التي قررت اتباعها ! من أنتِ لتقرري ما أنا عليه حقاً ؟ لماذا لا زلتِ مصرة أنكِ المرأة ذات النظرة العميقة التي تجيد التحليل !

تحرك ليقف أمامي ووضع يده على كتفي مهدئاً بصوت حازم : أصمتِ ! ادخلي إلى المنزل لنوقف الأمر عند هذا الحد ..

نظرت إليه بعين متسعة حانقة في حين أخذت بدورها شهيقاً ومررت سبابتها وابهامها بين حاجبيها متمتمة : تحاول الأميرة العازبة أن تدافع عن نفسها وتظهر كامرأة نقية نظيفة لعلها تواصل الظهور كالبطلة المظلومة .. ، بالمناسبة يا جينيفر دعي هذه الأحلام والأوهام بعيداً عنكِ لئلا تورطي نفسك .. أقصد .. كما ترين أريد اسداء النصيحة لكِ وأخبركِ أن شاب في السابعة والعشرون من عمره لن ينظر إليك بنظرة جادة حقاً يا من تستمر في الركض خلف كل رجل يبتسم لها أو يلقي عليها بتحية لطيفة ! ولكن هذا مؤسف الا تتفقين ؟! أنظري إليه .. إنه شقيق الفتاة التي اتهمتها مرارا وتكرارا بنفسك أمام الجميع ، الا تذكرين ؟

قالتها تدعي الاستغراب ففغرت فاهي في حين أكملت بلا حيلة : آه .. وخالته تكون شقيقتي التي واصلت افترائك عليها في كل صغيرة وكبيرة وقد أجريت مشهد تمثيلي مؤثر يحبس الانفاس أنتِ وذلك النكرة واعتقدتما ان الحيلة ستنطلي على الجميع ، اختفيتي بعدها وغادرت إلى مدينة بعيدة وحققت نجاحات ساحقة وأنجزت طموحات كثيرة .. اسمحي لي أن أثني عليكِ جهودك البالغة ولكن .. هذا غريب ! ظننت أنكِ كنت تمرين في حالة صعبة ونفسية محطمة .. كيف آل الوضع إلى تحقيق كل هذه النجاحات يا ترى ..!

_ رجاءً ! توقفي عن اقحام امور قديمة في كل شيء ، متى ستكتفين من انعاش هذه الأحداث بحق الإله ! توقفي لم يعد الوضع يحتمل الصبر أكثر !

قالها نافياً بإنزعاج .. استنكار .. رفض تام واقتضاب شديد !

نظرت إليه بتردد وغضب قبل أن أهمس : بارعة دائماً في التملص من المواضيع .. ألن تجيببي عن أول سؤال تم طرحه ؟ ما الذي تفعلينه هنا ؟ لماذا كنتِ تراقبيننا ! لا يعقل أنكِ قطعت هذه المسافة لتحيي الذكريات الجميلة .. أليس كذلك ؟

م .. مهلاً !

تراقبنا ؟

الا يعني هذا أنها تعلم بأمر ذهابنا إلى المشفى أيضاً ؟ وإن كنا تحدثنا مع كريس وشارلوت في حديقة المشفى .. هذا يعني أنها رأت كريس وعلمت انه قد عاد !

أيعقل أن هذا الأمر استفزها أيضاً ؟ هي لم تذكر أمر ذهابنا إلى المشفى حتى !

هكذا إذاً ..

أعتقد أن كريس سيبقى الوتر الحساس بالنسبة لهذه المرأة .. سيظل كاللقمة الكبيرة التي تعجز عن ابتلاعها !

ان كانت ماهرة في لعبة حرق الأعصاب فعلي ان استجمع شتات نفسي أنا أيضاً ، ليس وكأنها ستأتي لتلقي بتحية دافئة وما شابه فأنا أكثر من تعلم أنها تكره كل شخص تربطه أي علاقة بكريس من بعيد أو قريب .. لا بأس إذاً ، ربما حان وقت تنظيف الايادي وازالة الغبار قليلاً ..

تنفست بهدوء وعمق ..

رسمت ابتسامة متململة واقتربت من رين أسند يدي على كتفه فبدى مستنكراً كثيراً للتعبير على وجهي وردة فعلي ! ، ومع ذلك فلا تزال هي تحافظ على الملامح المرتخية ببراعة ! .. نظرت إليها بتقييم للحظة قبل ان أتساءل : عمتي فيكتوريا هل ستستائين كثيراً لو اعترف كلانا أننا ننوي مواعدة بعضنا البعض ؟

فغر فمه بعدم تصديق وطرف بسرعة وهو يرسل التحذيرات والتهديدات بكلتا عينيه ، أما هي .. فابتسمت برضى لتومئ : وأخيراً قررتِ الخروج من قوقعة البراءة ..

أيدتها متنهدة ولا تزال يدي على كتفه : معكِ حق .. التظاهر منهك جداً ..

ابعد يدي بخشونة وحزم : أوقفي هذا الهراء حالاً ! توقفي عن الكذب والـ..

_ أنا لا أكذب ..

قلتها بهدوء وأردفت بثبات مشيرة إليه : بادر بنفسه على تقبيلي دون استئذان أو حتى تمهيد مسبق ..

نعم ..

هذا ما أريده ..

هذا ما أرغب به ..

بدأت تطرف ببطء شديد وهذا يدل على بدء غليانها ومحاولتها للحفاظ على رباطة جأشها ..

بدى رين ساخطاً علي بشدة وهو يسألني بكلتا عينيه عن السخف الذي أتفوه به .. ، لقد اكتفيت .. على أحدنا أن يبادر وان لم يكن هو فسأكون أنا ! لست أخاف فيكتوريا ولكنه قلق علي منها .. عليه أن يوقف هذه المخاوف السخيفة حالاً ! سأراعي كونها والدته ولكنني سأسترد حقي بطريقتي الخاصة ولا يمكن لأي شخص لومي !

ابتسمت واسترسلت أضع يدي على خصري : لم يدهشك هذا يا فيكتوريا اليس كذلك ؟ الجميع كان يعلم أن رين لطالما كان معجباً بي في طفولته وأنتِ على رأسهم .. مع الأسف الشديد يبدو أن هذه المشاعر ليس من السهل التخلص منها .. لذا إن أردت لوم أحد هنا فلومي ابنك العزيز الذي تجرأ على تقبيلي ..

أمسك بذراعي يجز على أسنانه : تراجعي عما قلته حالاً ..

ومع أنه كان يهددني ..

ولكنني وللحظة ذُهلت بالرجاء في عينيه !

لا مجال للتراجع ..

أبعدته عني وقد انتزعت ذراعي بقوة وأكملت أرفع كلتا يداي بلا حيلة : إن كنت ترفضين تصديق ما أقوله فالجئي إلى آلات التصوير لمراقبة المواقف الخلفية لمطعم سأكتب اسمه في ورقة واهديكِ إياه إن شئت .. ولنرى بعدها من منا يلهث خلف الآخر ، أنا .. أم هو ؟

ظهر الوميض الذي يدل على الشك والحذر في زرقتيها الكحيلتان وقد رمقت رين بنظرة سريعة وهو بدوره كور قبضتيه ينظر إلي بخيبة وكل ما يحيط به يصرخ معترضاً على ما أفعله ..

بدت وكأنها ستتحدث فأسرعت أقول أتظاهر بالتفكير : آه كيف نسيت هذا أيضاً ! هو من أتى إلى الحانة بنفسه .. مع أنني اتصلت به لأخبره أن يتركني وشأني ولكنه أتى وقد منح نفسه دعوة حضور مجانية .. لا يمكن أنك ستنكر هذا يا رين ؟ يمكنكِ اللجوء هذه المرة إلى أي شخص كان هناك وسؤاله أو سأتطوع لكِ بإحضار تسجيل للمكالمة .. ما رأيكِ ؟!

وأخيراً سلك الإستنكار طريقه إلى ملامحها وهي تحدق إلي ثم نقلت ببصرها إليه فقال بجمود : أنتِ تتمادين أكثر من اللازم .

رفعت كتفاي : تعتقد بأنني سأنصت إلى اتهام العمة فيكتوريا إياي بالمرأة العابثة وألتزم الصمت ؟ بربك أنا لست متبلدة إلى هذه الدرجة !

ثم رمقتها أتظاهر بترتيب ملابسي ومظهري : بالمناسبة لدي سؤال بسيط أرجو ألا يزعجك .. أين كنتِ تقفين أثناء اختلاس النظر إلينا في حديقة المشفى ؟

أشاح رين بوجهه بعيداً بينما نظرت إلي ببرود : حيث أستطيع رؤية مشهد عاطفي مبتذل لن أبيعه لأي شخص ولو بثمن بخس ..

كما توقعت .. لقد كانت هناك ، لا بد وأنها سمعت كل شيء وعلمت باعتذار كريس لرين .. كم هي خبيثة ، أراهن على أن هذا أكثر ما يثير سخطها .. لربما ترى أن اعتذاره مفتاح حقيقي لفتح أبواب أُغلقت منذ زمن .. وهي تعمل جاهدة الآن على تغيير الأقفال لئلا تعود الأوضاع كما كانت ..

ليست سوى امرأة متعطشة لإذلال كريس كلما سمحت لها الفرصة .. تعاني من جوع ونهم شديد تجاه رؤيته معزولاً في هذه العائلة ! لا أستبعد أن تفكر الآن بطريقة تفسد فيها كل شيء وهي تجلس على طاولة العشاء تتبادل الأنخاب مع الشياطين آملة أن تجد الضربة القاضية ..

إلى أي مدى تكرهه ؟! ما مدى حقدها تجاهه ! ما دوافعها الحقيقية ولماذا تكن له كل هذا البغض !!

_ فيكتوريا .. يا عزيزتي التجسس عادة سيئة كما تعلمين .. ! لو كنت أعلم أنكِ هناك لاقترحت أن نذهب سويةَ لشراء بعض الزهور واللوازم لنحتفل بهذه المناسبة السعيدة ، كان الوضع مؤثراً جداً اليس كذلك ؟ يبدو أن كريس عاد ويعلم جيداً ما يريد فعله الآن .. لا يسعني العالم لأصف سعادتي وفخري به ..

أردفت محتارة : هذا يعني أنكِ رأيت زوجته أيضاً .. ما رأيكِ بها ؟ تبدو لطيفة جداً صحيح ؟

نظرت إلي بهدوء بالغ قبل أن ترسم ابتسامة مسايرة : لطيفة أكثر مما تصورت .. مثابرة ومجتهدة تماماً كوالدتها ..

أعقبت تقترب من سيارة رين وتسند ظهرها عليها خلفها متكتفة بإستهزاء : الأحداث تعيد نفسها من جديد ، كانت والدتها ماهرة جداً في التظاهر بالبراءة والنقاء ، نجحت في سرقة ذلك الخائن من باتريشيا وكونت عائلة صغيرة لطيفة إلى أقصد حد .. يبدو أنها دربت ابنتها جيداً فها هي ذا تتبع النهج نفسه تماماً ..

رفعت كتفيها مسترسلة بإشمئزاز : هذه العاهرة الصغيرة ستتضح أنيابها ولو بعد حين .. ستضرب ذلك النكرة على قفاه وتمتص كل ما يضعه في جيوبه وكل ما اجتهد ماكس وإفليك لأجله ، حينها سأزوركم لأمتع نفسي وأضحك قليلاً بينما أتناول الفشار ..

اللعنة على افتراءاتها !

نفيت برأسي وانا أتساءل في محاولة لاستفزازها : هل أنتِ واثقة أنكِ ستقومين بزيارة لأجل الضحك ؟! ألا تعلمين أن تلك الفتاة تكون حب طفولة كريس ؟

رفعت حاجبها الأيسر باستنكار فأضفت بسرعة بتوتر : أوه يا الهي ..! عليكِ تصحيح معلوماتك الخاصة فوراً ، إنها الحقيقة يا فيكتوريا تلك الفتاة تزوجها كريس ولم يمنحها فرصة الرفض أصلاً ، يبدو متيماً وواقعاً في حبها إلى درجة تجاوز الكوارث الأخيرة .. بل أنه عاد لأجلها هي وابنه وحسب .. هل تعلمين أيضاً أنها من أعادته ؟ الجميع يعتمد عليها بالفعل ويبدو أننا أصبنا في اعتمادنا عليها .. لم يخطئ ماكس عندما أخبرني بضرورة توطيد علاقتهما ببعضهما ، فيبدو أن هاذان الإثنان يفهمان بعضهما جيداً ومن الصعب إخماد لهيب الحب الذي يحملانه تجاه بعضهما .. صحيح يا رين ؟

نظرت إليه مبتسمة بمرح وبراءة فأشاح بوجهه لثواني وبدى متردداً بأمر ما ، ولكنه في النهاية نظر إليها بجدية بالغة وقال بإتزان : أمي .. إنها النقطة الوحيدة التي أتفق معها فيها ، تلك الفتاة اختارها بنفسه وحُري بكِ إيقاف أوليفيا عند حدها ، لطالما كنا نجري لها المراجعات في العيادة ولكنها كانت تعود أسوأ مما سبق .. توقفي عن منحها آمال وعن كونكِ متناقضة تبدين كراهيتك له ولا تمانعين التصاق ابنتك به ! ذلك الطفل دفع ضريبة تصرفاتها ولا ذنب له في أي شيء وها هو ذا طريح الفريش حتى الآن .. الم يحن الوقت لنكتفي بالتسبب بالأذى للآخرون ! الا يكفي أن..

صفقت بيدها وهي تضحك بإعجاب وعدم تصديق !

ابعدت ظهرها عن السيارة قليلاً وتساءلت وهي لا تزال تصفق : عظيم .. عظيم وحكيم أنتَ يا رين .. أي الأفكار الساذجة والعقيمة قد غزت رأسك الآن ؟

استرسلت نافية بحاجبين مرفوعان وعين تخفي سخطاً مريعاً : تدافع عن من ؟! عن الذي حبسك ثلاثة ليال في مخزن معزول وتسبب لك في الربو وها أنت ذا تعاني من احتقان في رئتيك ؟ تدافع عمن كان السبب في انتحار خالتك ! عن الشخص الذي قطع وعوداً كاذبة لشقيقتك وتسبب في تفاقم حالتها ؟ أتراك تشعر بالحنين والشوق لتلك الأيام اللطيفة ! هل تحن إلى عودة تلك العلاقة السخيفة تحت عنوان الأخوة ؟! أي أخوة هذه ! أي عقل هذا الذي تلجأ للتفكير به ؟!

أجفلت منتفضة لصراخه بغضب : لا أملك إجابة على كل هذا ! ليس لدي ما أقوله ولكنني اكتفيت من هذه الحرب الغير مبررة ! إلى متى علينا أن نعيش بهذه الطريقة ! لماذا هذه العائلة مشؤومة إلى هذا الحد ويحارب أفرادها بعضهم البعض ؟! لماذا علينا أن نعزل أنفسنا عن الآخرين ونشير إليهم بأصابع الإتهام ! لماذا الطرف الآخر دائماً مخطئ ! هل نحن رهبان يعتكفون ويتضرعون فوق رؤوس الجبال لنكون معصومين من ارتكاب الأخطاء ! لماذا نلقي دائماً الأخطاء على عاتق الآخرين ! ما شأننا نحن بعلاقة قديمة بين والدا تلك الفتاة مع خالتي والسيد ماكس ! ما شأننا بما اقترفوه بأنفسهم ! لماذا تواصلين ترددين تلك العبارات المناضلة لرفع شأن خالتي إلى هذه الدرجة ؟! لماذا خالتي باتريشيا المظلومة في حين يعاني الجميع بسببها !

_ لقد فقدت عقلك بلا شك !

_ أي عقل هذا الذي سأفقده أكثر ! أي من كل هذا يساعدني على الاحتفاظ بعقلي ! أنظري إلى حالنا ! قمتِ بعزلنا عن عائلة إفليك كلها وفي المقابل لا نتواصل مع عائلة أبي ، علاقتنا بهم سطحية بسبب خلافاتك المتكررة مع عمتي وجدتي ! حتى الجيران يلقون علينا بنظرة لا تشير سوى إلا كوننا أُناس لا يجيدون سوى التحديق إلى الآخرين شزراً ..! من نحن بحق الإله وأين نعيش ! لم يعد التواصل مع أفراد العائلة ممكناً ولا الزيارات مسموح بها .. ما الذي تحاولين فعله ! إنشاء سجن تقدمين فيه دروس في الأخلاق التي تؤمنين بها ! لماذا عليكِ دائما أن ..

ر .. رين !

اتسعت عيناي بدهشة في حين نظر بعيداً يطبق بفمه بقوة متمالكاً نفسه أمام اقترابها منه وهي تضرب صدره بغضب بقبضتها ، بل وأيقنت كم كان الأمر مؤلماً حين كُسر رأس الخاتم حول اصبعها وقد وقع على الأرض ! ، نعم .. بالطبع ! لم يعجبها أي من هذه الحقائق وها هي ذا تحدق إليه بحدة وحزم .. نظر إلى الفراغ وهمس متمالكاً نفسه ومع ذلك خرج صوته مبحوحاً وأجش : صحيح .. ما قالته للتو صحيح .. قبلتها مرتين بالفعل وأقبلت بنفسي على ذلك ، أنا من أخذها من الحانة وأنا من اصطحبتها إلى الشقة ..

نفيت برأسها مستنكرة بشدة وقد ضاقت زرقتيها بغضب ممررة يدها الأخرى على اصبعها لتنتزع الخاتم : منذ متى تتحدث هكذا ! لقد جننت حقاً !

ظل ينظر بعيداً وقد توتر الجو كثيراً ! .. ، عقدت حاجباي أرمقه بإرتباك وقلق .. لم أتوقع حقاً أن ينفجر هكذا ، ليس وكأن علاقته بها جيدة أصلاً ولكنني أعلم أن الأحاديث المتبادلة بينهما محدودة لم تتضمن شيئاً من صراحة وعمق كهذا ..

_ أمي ..

همس منادياً بصوت خافت مستمر في احالة النظر بعيداً ، زميت شفتاي اترقب ما سيقوله في حين تنفست بعدم انتظام ليكمل بشرود : ومع أن أبي وأوليفيا من اقترحا الذهاب لزيارة كريس حين وقع طريحاً في المشفى بعد حادثة الطعن ، ولكنني ذهبت بنفسي لمراقبة أفعالها التي اكتفى الناس منها .. لم تمانعي ذهابنا ولم ترفضي حتى .. لم تكترثي بأي شيء !

أعقب وقد نظر أخيراً إليها ينفي بخيبة : لم أتوقف عن الإساءة للجميع .. لم أتوقف للحظة عن محاولة استفزازهم .. حتى في ذلك المخيم المشؤوم كنت اواصل ازعاجهم ، ولكنني حينها اكتفيت وخارت قواي ! ادركت ان لا فائدة أجنيها من كل هذا ! وفي الحقيقة وجدت أنني أرغب في الجلوس هناك أكثر حتى لو كنت أعزل نفسي ! كان ينتابني شعور افتقدته منذ زمن ! رؤية الجميع يحاولون إمضاء وقت ممتع ليقضونه في إسعاد بعضهم راغبين في رمي المشاكل خلف ظهورهم .. جعلني أشعر أنه من الضروري الاستمتاع ولو قليلاً فذلك التجمع قد لا يحدث مرة أخرى .. متى بحق الإله كان آخر تجمع عائلي تواجدنا فيه !

أطرقت برأسي بأسى وعزمت أمري على ألا أتدخل ، .. من قال أنني لم أستشعر هذا كله ؟ كنت أعلم أنه يرغب في رؤية هذه العائلة تتوقف عن هذه الحرب السخيفة ، فاشل في الحصول على صداقات جديدة وفاشل في محاولة ان يكون واضحاً مع نفسه قبل الآخرين ..

مزيد من الإرادة فقط وأضمن له أنه سيعود كما كان .. مجرد شخص بسيط كل ما يهمه إيجاد السعادة في يومه الحالي فقط !

شجعته بكلتا عيناي ولكنني انتفضت لصوتها الحاد : لا أصدق .. أنا حقاً لا أصدق ما تهذي به !

أردفت تنظر إلي بغضب : أي نوع من التعاويذ ألقتها عليك هذه الساحرة الرخصية ! خرجت لأتبعك وأحاورك بشأن عودتك للتدخين ولكنك كتبت علي رؤية مشهد روميو الباحث عن جولييت بل وتتمادى الآن بكل وقاحة ودناءة وتلعب دور الابن الذي يعاتب وقد فاض ما في نفسه ! أحذرك .. أنا أحذرك أن توقف هذا الهذيان حالاً وإلا أقسم بأنك ستندم ..

عضيت على طرف شفتي بحنق فاستوقفها مهدئاً بنفاذ صبر : لست أهذي .. ، ولكنني أريد فقط أن أفهم شيئاً واحداً .. ما الذي سيضرنا حقاً لو حاولنا أن نتوغل في علاقاتنا مع باقي العائلة ! ما الذي سنخسره ؟!

كورت قبضة يدها وبدت العروق تبرز على صدغيها ، نال التحابق عليها وهي تزمجر : يبدو أن هذا الهراء سيطول ولا نهاية له ، أقترح أن نعود إلى المنزل فيبدو أن لدينا حوار أخشى ان يكون عقيماً ..

رمقتني بطرف عينها وهمست بإزدراء وجفاء : هنيئاً لكِ .. كدت تنجحين في تسيّيره كما يحلو لكِ ، ولكن أحلامك الوردية لن تدوم يا جينيفر .. اثقبي تلك الغيمة الزهرية اللطيفة التي تحلق فوق رأسك والتمسي الواقع .. لا تجبريني على رمي قسم أتعهد بتحقيقه وأجعلك تقفين عند حدك وتتعلمين درساً تخرجين منه خاسرة بلا قيمة ..

رفعت كتفاي بلا حيلة : ليس طفلاً صغيراً تخشين عليه من الآخرين .. كما يمكنكِ توجيه حديثك إليه فلا يزال يقف أمامك كما ترين .. أما أنا ؟ فبصراحة لا ألقي بالاً للتهديدات .. اعتدت على هذا في مجال عملي ..

ألقت علي بنظرة متوعدة ثم حدقت إليه بحنق : لنعد .. حالاً .

تحركت بخطى واسعة مبتعدة لتعود إلى سيارتها وصوت كعبها يدل على امكانية خلق شرارة لهيب تحرق كل ما حولها ! نظرت إليه بتلقائية فوجدته يبادلني النظرات بتعبير غريب جعل من قلبي يسقط في معدتي ..

حيث لم أرى في زرقتيه سوى خيبة شديدة واضحة ، وعلى ملامحه انكسار حاول اخفاؤه وهو يتحرك بهدوء نحو سيارته ..

زميت شفتي بتردد وهمست باسمه بأسى فنظر إلي وقد فتح باب السيارة ..

عقدت حاجباي بإستياء وقلت بلا حيلة وعبوس : رين أنا حقاً لم أقصد أن يتفاقم الوضع هكذا .. كما لا يمكن أنكَ ستقبل بأن يتم تشكيلك حقاً !

رسم ابتسامة جانبية مضمرة وعينيه مستمرة في تأمل وجهي .. أطرقت برأسي أتمالك نفسي ثم عاودت أنظر إليه بشجن تغلب علي ..

سيرحل حقاً ؟! هل هذا كل شيء ! هنا ينتهي الأمر ؟ سيخضع لما تقوله ؟ حتى وإن كانت والدته فهذا لا يعني أن ما تفعله يقوده إلى مصلحته ! لماذا تُصر على تقييده بهذه الطريقة ! ما الذي تريده بحق الإله ؟

هل هذا يعني أنه سيتجاهل كل شيء الآن ! سيلقي بكل شيء خلف ظهره ؟! م .. ماذا عني !

وجدت نفسي أسأله بعيناي بضياع فرفع كتفيه بهدوء : لا أدري ما الذي تنتظرين سماعه .. ولكن لم يعد لدي ما أقوله ..

أعقب ينظر إلى فيكتوريا التي وصلت إلى سيارتها السوداء : أو ربما لدي الكثير .. ولكن فات الآن ..

فات .. الأوان ؟!

ما الذي يعنيه !! أي أوان هذا الذي فات ؟ أوان ماذا بحق الإله ؟!

لم أشعر بنفسي وأنا أقترب منه بتردد وإستياء لأقف أمامه هامسة : رين .. هل ترغب حقاً في انهاء كل شيء ؟

وضعت يدي على كتفه أكمل بضيق : كل شيء ؟ كل ما شعرنا به معاً في فترة وجيزة ؟ وكل ما شعرنا به منذ الطفولة ! ستنهي كل شيء ببساطة ؟ أليس من الظلم أن نلقي بكل هذا خلف ظهورنا ..؟

_ من الظلم أن نعلق آمالاً ونرفع سقف توقعاتنا ، كوني واقعية قليلاً وتوقفي عن كونكِ عاطفية ..

فغرت فاهي لثواني قبل أن تتقوس شفتاي .. بل أنني ذهلت بالدموع التي تجمعت في عيناي وغشت الرؤية ! لماذا يتحدث كما لو كان الوداع حقاً ؟! لماذا !

همست بإسمه بأمل فابتسم بهدوء يحدق إلي بتمعن وشرود ثم رفع يمناه يلمس وجنتي هامساً : أعتقد أن الكثير قد حدث ، ان يعتذر ذلك المغفل ويرفض التبرير ، ان تعترفي لي وقد ظننته مجرد تهور ، في جميع الأحوال ليس كل ما نتمناه نحصل عليه وليس كل ما نهرب منه سننجو منه .. فهمتِ ؟

نفيت برفض وقد اعترضت بأسى : لماذا يا رين إن كان كلانا يحب الآخر ؟ لماذا لا تريد أن نحارب معاً !

أخفض عينيه قليلاً ولم يسمح لي برؤية البريق الهادئ فيهما لتحجب أهدابه الرؤية وهو يتمتم مبعداً يده : لننهي الأمر هنا ..

_ هل هذه النهاية التي تريدها ؟

_ قد تكون بداية يا جينيفر لطريق آخر .. لا ترهقي نفسكِ بالتفكير .

نظر إلي أخيراً وقد تنهد ببطء ليرفع رأسه ينظر إلى السماء بصمت حتى همس : أظنني أدين لكِ بالاعتذار للتهور وتقبيلك بطيش .. لو لم أقدم على فعلة كهذه لما آلت الأمور إلى ما هي عليه الان ..

أعقب مبتسماً بلطف أذهلني : وأيضاً .. استوعبت الكثير مما كنت غافلاً عنه ، تعلمت ما كنت أجهله .. وأبديت قليلاً مما دفنت في أعماقي .. لا تبدو تجربة سيئة حقاً ..

هذا غريب .. يوجد وخزة غريبة مزعجة في صدري ! أشعر برجفة دخيلة تسري في جسدي وتهزني محاولة تثبيتي وفي الوقت آنه تطالبني بحل سريع يعيد كل الهدوء الداخلي إلى ما كان عليه ..

هل وقوعي في الحب لأول مرة منذ الطفولة واستمراره حتى هذا الوقت .. قد انتهى بنتائج مثيرة للسخرية كهذه ؟! هل حقاً لا قدر سيجمعني به ؟ لا حظ سيتبسم في وجهنا معاً ؟!

هل هذا ما يعنيه ألم الوداع ؟ ثم سأعيش بعده في ألم الفراق .. يليه الشوق والتعاسة ؟!

تطورت الوخزة إلى ما يشبه الطعنة القاضية وأنا أراه يدخل السيارة ويغلق الباب .. ثم يحركها مبتعداً وقد ترك خلفه جسدي الذي بالكاد يتزن وروحي المحطمة .. ترك خلفه أمل قد قتله بابتسامة أخيرة يودعني بها .. ترك خلفه امرأة تعترف بهزيمة بشعة وانهيار جزء كبير منها ..

مضى في طريقه وأنا لا أزال أقف بوجه شاحب وقد انكفأ لوني بشدة ..

مضى وأنا متسمرة في مكاني أحدق إليه يبتعد وعيناي تحملق فيما يرفضه قلبي ..

رفعت يدي نحو صدري لعلي أهدئ من نفسي ولكن هذا لم يزد الطين إلا بلة فلقد انفجرت باكية كطفلة تركها ذويها وغادروا عنها بعيداً .. ! يا الهي .. هذا هو الجزء الأسوأ من الحب .. لم أكن لأرسم أي توقعات لأجربه حتى ! هل كان علي تجربته أصلاً ؟! هل أستحق هذا حقاً ! أشعر أنني عثرت على ضالتي ثم اكتشفت فجأة أن كل هذا مرد حلم سعيد أخذني بعيداً وحلق بي في أرجاء عالم ينطوي على خيالي الخاص ..

اختفت الأضواء الخلفية الحمراء لسيارته عندما انعطف يميناً فجلست القرفصاء على الأرض أحتضن حقيبتي والدموع توجه صفعاتها الحارة على وجنتي ، ذابت الغصة في جوفي وشردت عيناي في الفراغ الموحش ..

الحب الذي رفعني عالياً أطاح بي أرضاً بقسوة ..

يا لسخرية القدر .. القدر الذي يعلم أنني أكره لحظات الوداع يسقيني الآن وداع من الشخص الذي رجوت أن نكمل طريقنا معاً ! أنا حقاً لست أفهم لماذا ينتهي كل شيء هنا .. عند هذا الحد ! بعد أن أدركت أنه يكن لي مشاعر الحب ، بعد أن سمعته بنفسي يردد خوفه من اقحامي في عالمه ..

رفعت يدي المرتجفة وفيها تلويحة للفراغ كما لو كان على الأقل سيظهر وأراه يعود ليقول كلمة أخيرة .. ولكن أجابني هدوء الحي والفراغ الممتد على مد البصر فعاودت أحتضن حقيبتي بقوة أكبر .. وقد فلت من بين شفتاي خنين خافت تلاه شهقة تروي رئتاي بالهواء اللازم ..

هل يعني هذا أنها كانت تجربة أتعلم منها .. بل يتعلم كلانا منها !

تجربة كان من الضروري خوضها .. لأفهم ضرورة الشعور بقيمة الأشخاص المهمين في حياتي .. تجربة مهمة لأستوعب أن ليس كل ما أريده سيدوم .. وليس كل ما نتمناه يتحقق ..

ليس كل ما نهرب منه ..

ننجو منه ..

تـيـــا :

الجميع يحدق إليه بتوتر ، الأنظار مصوبة عليه بخوف .. بأمل ورجاء .. هالة من الترقب الشديد تحيط في كل شخص يقف والأفواه مطبقة وكل ما ننتظر سماعه هو الصوت الطفولي للجالس على السرير وقد نُزعت عن عينيه الضمادة البيضاء ..

تسارعت خفقات قلبي لرؤية عسليتيه الواسعة تطرف بتثاقل .. ببطء .. يضيقها يغمضها ثم يعاود يطرف بتثاقل واضح !

يا الهي ..

يكاد الهواء ينفذ من الغرفة جراء أنفاسنا السريعة !

عضيت على شفتاي بإرتباك ونظرت حيث يقف ستيف ووالديه وفي أعينهم نظرة قلق وجزع ، وعلى يساري والدا شارلوت وإيثان الذي وضع يده على خاصرته وعقد حاجبيه وبدى يكبح لسانه من المبادرة بالسؤال وعينيه على الطبيب الذي يرفع يده يمررها أمام أعين الصغير التائه ..

رفعت أولين يدها نحو ثغرها وكادت تعض على أناملها محاولة التخفيف من حدة أعصابها ، وكريس الذي يجلس على طرف السرير ويبدو كالقناص في ساحة الحرب الذي كُلف بعدم رفع عينيه عن هدفه !! بالكاد يتحرك وبالكاد ينطق .. كل ما يفعله هو التحديق إلى من بات يستطيع ان يطرف بحركة أسرع قليلاً وأصبح جفنيه أخف وزناً بالنسبة له .. وبجانب كريس يجلس شارلي في الجهة المجاورة على يمين جيمي وتساءل بخوف عاقداً حاجبيه : عمي كريس .. لماذا لا يقول جيمي شيئاً ؟

مرر كريس يده في شعره بتوتر حتى نفذ صبره وتساءل بصوت خافت متقطع : جيمي .. ما الذي تراه ؟

رفع جيمي يديه وبدى منزعجاً من أثر ما تم وضعه حول عينيه بعد نزع الضمادة وكاد يمسحه لولا أن أسرع الطبيب بمنعه بلطف : تجنب بكل الطرق لمس عينيك حالياً .. قد يكون الأمر مزعجاً قليلاً ولكن ابذل جهدك في تجاهل هذا الشعور المزعج ، حسناً ؟

أومأ جيمي وهو يهمس بخوف وعبوس : أبي .. الأشياء ليست واضحة ..

ارتخت ملامح كريس وقد تربع على وجهه القلق والتوتر وهو يلقي نظرة مترقبة مندفعة على الطبيب الذي ابتسم : بالطبع ستكون الرؤية ضبابية في البداية .. لم يمضي على نزع الضمادة أكثر من ثلاث دقائق حتى !

اقترب كريس منه أكثر وربت على رأسه بلطف وقال مشجعاً : أسمعت ؟ لن تكون الرؤية واضحة الآن لذا لننتظر معاً قليلاً اتفقنا ؟

ومع أن الخوف لا زال على وجه جيمي الذي أمسك بيد كريس اليسرى بكلتا يديه ولكنه أومأ متلعثماً : ولكنني أشعر بحرقة ووخز في عيناي ..

انزلقت يد كريس من رأسه حتى وجنته وطمأنه : هذا أيضاً طبيعي ولا داعي للخوف .. أخبرني ما الذي تراه الآن وإن كانت الرؤية غير واضحة ؟

بدى يحاول التركيز وبالكاد يضيق عينيه اللتان تسمرتا على كريس وقد تمتم ببطء : أرى شعرك ..

_ وماذا أيضاً ؟

_ معطفك ..

_ هل يمكنك تحديد لونه ؟

_ داكن ..

_ نعم أحسنت .. ولكن الا يمكنك تحديد أي لون داكن هو ؟

عض جيمي على شفتيه وهو يقطب حاجبيه ثم ظل يحدق إليه بتردد : أزرق ؟

ابتسمتُ بسعادة وكذلك الجميع لتقول كلوديا بسرور وهي تقترب وتقف أمام كريس : تماما يا جيمي معطف والدك أزرق .. أحسنت يا عزيزي !

ارتخت ملامح جيمي ثم سرعان ما ابتسم بسعادة هو الآخر فقال شارلي اللذي تقوست شفتيه للأسفل متمالكاً نفسه : هل ترى قبعتي ؟ يمكنك تحديد لونها ؟

نظر جيمي بإتجاهه للحظات قبل أن يقول : بيضاء .. لا .. بل صفراء ؟

اتسعت عينا شارلي بسعادة ثم صاح بحماس : تماماً !

تنهد ستيف براحة وكذلك جوش الذي قال بسرور : شيئاً فشيئاً وسيتضح كل شيء .. الألوان والأشكال ثم الـ..

ولكنه توقف تدريجيا وقد اتجهت عيناه وأعين الجميع إلى كريس الذي جذب جيمي إليه يعانقه ويربت على ظهره ، هذا الأحمق عندما يتصرف بلطف فجأة يضطر الجميع إلى التزام الصمت .. رفع جيمي كذلك كلتا يديه الصغيرتان يعانقه ، ليهمس كريس بصوت خافت التقطته أذني : كل شيء سيكون على ما يرام ، ستخرج من هنا وستكون أسابيع قليلة وتستطيع نزع الجبيرة عن ساقك أيضاً وتلعب وتركض أينما تشاء ..

_ أبي لقد وعدتني أن نتنزه معاً كثيراً ..

_ وأنا عند وعدي ..

_ ووعدتني أيضاً أن نسافر معاً إلى المكان الذي سأختاره ..

_ بلا شك ..

_ وماذا عن أمي .. هي ليست موجودة اليوم أيضاً متى ستعود ! لماذا ليست معنا اليوم .. ؟

_ والدتك مشغولة جداً في دراستها ، هي قلقة بشأنك كثيراً ولكن لا يسعها المجيء إلى هنا ، إنها آخر فرصة تحظى بها لإعادة الاختبارات التي فاتتها حـ..

ولكنه انتفض وكذلك الجميع حين فُتح الباب بقوة ودخلت بخطى سريعة وهي تلهث بتعب باحثة بعينيها حتى استقرت على جيمي وركضت فوراً لتدفع كريس بعيداً وتعانق جيمي بقوة ..

ش .. شارلوت !! ما الذي تفعله هنا في ظل ضرورة تركيزها على اختباراتها ؟!

صاح ستيف بعدم تصديق : شارلوت ! ما الذي تفعلينه هنا ! ألا يفترض أنكِ غارقة بين كتبك وأوراقك ؟!

أيدته كلوديا بدهشة : كنا سنتصل ونطمئنك بشأنه لماذا قطعت كل هذه المسافة !

اقتربت السيدة ستيفاني بعدم استيعاب : ك .. كيف اتيت !

_ ظلت تهددني حتى استسلمت لها ..

لم يكن سوى سام الذي دخل الغرفة متنهداً بلا حيلة لينظر كريس إليه بإنزعاج : لماذا أحضرتها !

امتعض سام بشدة : لم أكن لأفعل ولكن هذه اللئيمة تستغل نقاط ضعفي فما عساي أفعل !

تدخلت شارلوت دون ان تبتعد عن جيمي الذي كان سعيداً بتواجدها : كيف لا أكون متواجدة بعد اجراءه للعملية !

جادلها كريس بحزم : كل دقيقة تهدرينها لن تعود إليكِ كما تعلمين ! جدول اختباراتك لا يتضمن فرصة للراحة فكيف تـ..

قاطعه السيد مارك بمرح ولطف : لا بأس يا كريس شارلوت لم تكن لتركز أصلا في دراستها وجيمي هنا يستفيق من عمليته ، سنعيدها بعد قليل معنا لذا لا تقلق .

عبست شارلوت تبعد جيمي عنها وتحدق إليه بتمعن : كيف هي النتيجة ؟ هل أنت بخير؟

أضافت توجه سؤالها للطبيب بإهتمام : أعلم أنه بحاجة إلى بعض الوقت ليبصر الأشياء جيداً ولكن ماذا عن الأعراض الجانبية ؟

أجابها الطبيب : كل شيء يسير على ما يرام ، سأستمر في معاينة حالته فقط ولكن لا تقلقوا النتيجة أفضل مما يكون ، الأعراض بسيطة ولا خوف منها ولكنني أرجح أن نغلق الستائر الآن ونخفف من إضاءة الغرفة حتى تعتاد عينيه عليها ثم نبدأ بزيادة الإضاءة تدريجياً ..

أومأت شارلوت بفهم وعاودت تنظر إلي جيمي بحب وقد قبلت جبينه بلطف : ستخرج قريباً من المشفى يا عزيزي ، وأنا أيضاً سأتفرغ من الجامعة تماماً وسيكون لنا الكثير من الوقت لنمضيه معاً ..

ابتسم جيمي ووجهه ينضح بالسعادة والحماس : أخبرني أبي أننا سنتنزه ونسافر معاً وستكونين برفقتنا دائماً ، يمكننا السفر والجبيرة لا تزال حول ساقي اليس كذلك ؟

أجابته شارلوت ضاحكة بخفوت : بالطبع .. الأهم الآن أن ترتاح ولا تحاول انهاك عينيك بأي شيء ..

ثم نظرت من حولها للجميع ولا سيما إلى شارلي قبل أن تسأله باستغراب : هل عادت جينيفر إلى عملها حقاً ؟

أجابها بإيماءة إيجاب : نعم .. منذ الأمس .

أردف بحزن يجوبه شك وغيض : تبدو تعيسة جداً .. أنا أعلم أن ذلك الأشقر فعل لها شيئاً ..

ظهر الاستغراب على ملامح الجميع وكذلك حاولت ترتيب كلماته في عقلي حتى أدركت أنه يشير إلى رين ولا أحد آخر !! هل حقاً تطورت العلاقة بينهما إلى هذا الحد ؟ هل حدث شيئاً مهماً !

مع أنها أمرت إحدى شركات التوصيل بإرسال باقة إزهار قبل بضع ساعات لجيمي وها هي ذا الباقة هنا على المنضدة وتبدو باهظة وأنيقة ولكن .. توقعت أن تتواجد هنا !

لويت شفتي محتارة بينما وضع إيثان يده على كتفي هامساً : اتضح انها كانت جادة تجاه رين ..

أومأت باستغراب : معك حق ! لم أتوقع مغادرتها بهدوء هكذا ..

سـتـيـف :

مرّ على إجراء جيمي للعملية أربعة ليال.. ، خفة الهواء الذي نتنفسه من الصعب وصفها ، والبسمة التي لا تفارق شفاهنا باتت كالصورة المطبوعة والمنشورة في كل مكان سواء أثناء تواجدنا في المشفى أو تجمعنا في المنزل .. بطريقة ما البسمة معدية ، والسعادة تنتشر كما ينتشر الهواء ، والراحة النفسية تطغى على الجميع وتسير لتبلغنا كلنا .. والدفء لا يمر بشخص واحد ويكتفي ..

نزور جيمي يومياً بالتناوب لئلا تزدحم الغرفة ونكون مصدر إزعاج في القِسم ، وشارلوت كذلك لا تنكف تتصل به لتطمئن عليه وقد كانت عاجزة تماماً عن المجيء بسبب ضغط الاختبارات كونها آخر فرصة تحظى بها .. كما أنها أحياناً تتحدث معه عن طريق إتصال الفيديو ليسهل الأمر أكثر وتستطيع التواصل معه بشكل بصري ، مع أنه يواجه بعض الصعوبات حتى الآن كالتحسس من الأضواء العالية وما إلى ذلك .. ولكن الأهم أن العلمية قد نجحت وها هو ذا قادر على ابصار كل شيء من جديد ! لم تكن خطرة منذ البداية كما أنه لا يشكو من مضاعفات قوية تُذكر .. ، كريس لم يتركه ولو للحظة .. منذ الصباح وحتى المساء يبقى معه ، وعند خلود الصغير إلى النوم يباشر بسرعة بمحاولة انهاء الملفات التي يطلب مني إحضارها في كل مرة آتي للزيارة .. ثم يبيت ليلاً ويصر على السيدة أولين العودة إلى المنزل .. وها أنا ذا أتجه للزيارة بعد تناول الغداء في المنزل مع والداي اللذان ذهب كل منهما إلى مكان ، فأبي خرج للقاء أحد زملاء العمل بينما أمي ..

دون أي حاجة للتفكير ذهبت إلى المدينة المجاورة للخروج مع السيدة ستيفاني ..

رفعت ركبتي اليمنى استعين بها لأعدل من الملفات التي أحملها بين يداي ثم سرت بسرعة وداهمت غرفة جيمي فزفر من يجلس بجانبه ممسكاً بكوب شراب ساخن : المرة القادمة التي تدخل فيها دون استئذان صدقني ستنسى كيف تخرج من المنزل على قدميك ..

ولكن أجفل لاقترابي منه بخطى متسارعة فأسرع يضع الكوب على المنضدة ويأخذ مني الملفات التي القيتها بين يديه ..

زفرت بتعب : وفي المرة القادمة اطلب من تيا احضار ما تريده لقد اكتفيت حقاً لم أعد أحتمل !

أخذ الملفات ووقف ليضعها على الطاولة المجاورة فجلست بجانب جيمي الذي ابتسم لي وهو منهمك في الرسم على الكراسة متوسطة الحجم في حجره ، تساءلت بحيرة : ما هذا ؟

أشار نحو جسد الكائن الغريب الذي رسمه : هذا أبي ..

ثم أشار لجسد آخر أصغر حجماً بخطوط بنية طويلة فوق الرأس ليقول بحماس : وهذه أمي ..

اتسعت عيناي بعدم تصديق : بَشر !! ليست كائنات فضائية ؟

ضرب كريس كتفي بضجر : نعم بشر .. جيمي ألن تريه الرسمة الأخرى ؟

أسرع الآخر يقلب في صفحات الكراسة حتى فتح صفحة لكائن بشعر بني داكن وعيون بلون بندقي وبؤبؤ رُسم بطريقة مريبة ويحمل في يده شيء .. ربما يكون هاتفاً !

اتسعت عيناي بشك : لا تقل بأن هذا المسخ هو أنا ؟!

عاود كريس يدفع كتفي بحزم : توقف عن قتل موهبته .. نعم إنه أنت ، ألا ترى كم يشبهك إلى حد كبير ؟!

نفيت بسخرية : بصراحة ظننتها رسمة لك ..

أعقبت بإنزعاج : وتوقف عن ضربي هكذا كلما سمحت لك الفرصة ..

جلس على الكرسي المجاور ونظر إلى هاتفه فسألت جيمي بإهتمام : هل تشعر أنك أفضل حالاً ؟

ابتسم لي وهو يعتدل في جلسته قليلاً : نعم .. ستيف ألم تحضر لي الألوان التي وعدت بشرائها لي ؟

اوه صحيح ! كيف نسيت هذا الأمر ؟!

لويت شفتي بعبوس وانا ابعثر شعره : لا أدري كيف غاب هذا عن ذهني .. حسناً في المرة القادمة سأجلبها معي حتماً ! أخبرني هل أتى شارلي اليوم ؟

في حين كنت منهمكاً في الحديث معه لمحت كريس الذي بدى منزعجاً من شيء ثم سرعان ما وضع الهاتف على أذنه يتصل في شخص ما وهو يخرج من الغرفة ..

ما خطبه !

ارتفع حاجباي باستغراب وقد ابتسمت بخبث وسمحت للفضول بالتحكم بي وأنا أقول لجيمي : سأتحدث مع والدك للحظة وسنعود فوراً حسناً ؟ أكمل الرسمة الجميلة هيا ..

بدى محتاراً كثيراً ولكنه لم يمانع وإنما أمسك بالألوان ليبدأ بتلوين شعر شارلوت المريب ..

خرجت من الغرفة أبحث بناظري ولم يأخذ ذلك وقت طويل فها هو يقف في نهاية الممر أمام النافذة ، اتجهت إليه ولم أكن لأتعمد التسلل وما شابه فلا أريد التصنت أصلاً ولا شيء سيدعوني لذلك ، ولهذا وقفت خلفه أدفع ظهره ممازحاً ووقفت أستند على النافذة أنظر إليه باستفزاز : مع من تتحدث ؟

رمقني بسعليتيه التي تفاجأت بالحزم والغضب فيهما وقد تجاهلني ينظر من خلال النافذة : ولما تتصلين بي لإخباري بشيء مماثل يا ترى ؟ هل حقاً يبدو الأمر ممتعاً بالنسبة لكِ ؟!

من تكون !

ارتخت ملامحي باستغراب ثم سرعان ما أجفلت لحدة صوته : اللعنة يا شارلوت اخرجي من منزله حالاً ألا يفترض أنكِ تدرسين الآن ؟!

هاه ؟!

_ آه نعم وليكن ؟ لا تريدين الذهاب معه دون اعلامي أولاً .. أواثقة أنكِ اتصلت لهذا السبب فقط ؟

ما الأمر !

جز على أسنانه للحظة قبل أن يغمض عينيه ويهمس : أنا لست بحاجة لرؤيتك أمامي مباشرة لأفهم ما تحاولين فعله .. صوتك يفضحك أيتها المغفلة .. على كلٍ إنه آخر تحذير لكِ أخرجي من منزله قبل أن أخفي منزله هذا تحت الأرض ..

قالها وأغلق الهاتف فأسرعت أتساءل بعدم فهم : ما خطب شارلوت ؟

نفي برأسه وهو يعقد حاجبيه بإنزعاج ، ولكنه سرعان ما زفر يمرر يده في شعره : هذه السخيفة تعتقد أنها بفعل هذا الهراء ستثير غيرتي .. يا للسخف ..

طرفت بعيني بعدم فهم وقد تكتفت أحدق إليه بتمعن ، أنا حقاً لا أدري ما الذي يتحدث عنه ولكن ..

تمتمت ببلاهة : ولكنك تبدو منزعجاً .. ذكرك للغيرة لا يعني سوى أنك تشعر بها الآن .. !

بلل شفتيه وبدى مغتاضاً مما قلته أكثر وأسند ظهره على طرف النافذة خلفنا وقال بتبرم : لديها جار مزعج لا يتوقف عن الالتصاق بها ، يبدو أنها تشعر بالملل وتريد الشجار معي قليلاً .. فليكن .

جار .. مزعج !

آه .. أظنني فهمت ما يحدث ، كم هو أحمق .. !!

ولكنني حقاً سعيد جداً بالأوضاع الحالية ، وسعيد أيضاً أنني بدأت انتزع نفسي من عالم الأوهام والعاطفة التي لن تضر أي شخص سواي أنا ..

رؤية المشاعر التي يكنها لشارلوت ومحاولاته بكل جهده أن يتقرب إلى جيمي تجعلني أستوعب ضرورة التحكم في نفسي أنا أيضاً .. من العار أن يحاول هو ويتغير للأفضل في حين أساهم في إرجاعه للوراء بسبب مشاعري المتهورة ..

أعلم أن الأمر لن يكون بهذه السرعة .. ولكنني حتماً قادر على نسيان ما أكنه من شعور تجاه شارلوت ، أن أوقف هذه المهزلة التي بدأتها بنفسي .. كريس تجاوز حتى التحدث في الأمر ولا يرغب في تهويله .. ربما استشعرت حقاً ما أعنيه له .. فهمت النظرة الأخوية التي ينظر إلي فيها ورغبته في عدم إفساد علاقتنا ببعضنا البعض ..

حان الوقت لأتوقف عن التفكير بأنانية مفرطة وأساعده وبالتالي أساعد نفسي ..

لا يزال الطريق طويلاً أمامي ..

كريس وجد ضالته ..

عثر على الفتاة التي تليق به وتناسبه وتكمل تناقضاته وتصحح مساره ، لذا سأعثر أنا ايضاً على الطرف الآخر المناسب لي .. حيث لا أكون سبباً في إفساد أي علاقة أو أكون سبباً في انهيار جسور يمشي الآخرون عليها ..

من الظلم أن أكون أساس خلق أي مشكلة بينهما وقد تعدل مسار الأوضاع أخيراً ، من الظلم أن أرغب فيما يتمسك هو به ، ومن المشين أن تطول عيناي إلى ما يملكه .. لم أحظى يوماً بأخ أو أخت أمضي معهم الوقت في المنزل ولكنني لم أشعر بذلك كلما زرت منزل خالي ماكس وتتبعت كريس أينما ذهب .. عندما كنت أطلب من أمي شراء ملابس مماثلة لما يرتدي ، عندما كنت أراقب تصرفاته وأقتبس منه بعض الكلمات القوية وأذهب لتجربتها على زملائي ، وعندما كنت ألجأ إليه في بعض المشاكل في المدرسة ليساعدني ويتستر علي من أمي وأبي ..

الوقوع في الحب قد يحدث مرة ..

ومرتين وعشرة ..

القلب يتقلب باستمرار وأبسط التفاصيل فيه قابلة للموت والذوبان بمحلول التجدد ..

كل يوم نلتقي بشخص جديد في حياتنا ، ومن المحال أن يكون هناك من يمر في حياتنا مرور الكرام ، يوجد حتماً حكمة من لقاء كل شخص ولو صدفة .. يوجد حكمة وإن كنت لا أعرفها ! حكمة من التنزه في الحديقة بجانب أشخاص لا أعرفهم وأراهم لأول مرة .. حتى هؤلاء الأشخاص اللذين لا يعنون أي شيء لي عدى كونهم مجرد مارة .. أو كالوقوف في الشرفة لأحتسي شراباً ساخناً أو أجري مكالمة هاتفية حيث ألمح شخص يقود سيارته أسفل المنزل .. حتى هذا الشخص قد يكون وجوده اليوم صدفة .. غداً ليس بكذلك ..

هم في الحقيقة كل شيء بالنسبة إلى اشخاص آخرين ..

تشابكات هذا العالم عميقة حقاً ..

أعمق بكثير مما نتصور ..!

_ متى ستتوقف عن التحديق إلي كمراهق قرر الإعتراف لمحبوبته في الساحة الخلفية ؟

اجفلت على قوله وقد هربت الأفكار العميقة من رأسي ! حتى استوعبت قوله بل واستوعبت أمر ارتخاء ملامحي بشدة وأنا أحدق إليه بشرود !

ها هو ذا جاهز للسخرية تماماً ..

زفرت بضجر ولكنني ابتسمت باستفزاز : تقبلين اعترافي يا محبوبتي ؟

رفع حاجبه الأيسر قبل أن يشيح بوجهه بسرعة ليضحك بخفوت فدفعت كتفه : أرأيت كيف هو حس دعابتي النادر والجميل قادر على قلب الأجواء دائماً ؟!

أومأ مسايراً بإستخفاف حتى رن هاتفه فنظر إلى الشاشة قبل أن يجيب بهدوء : مرحباً ..

صمت للحظات قبل أن يبدو عليه الإهتمام وهو يضع يده في جيب بنطاله مفكراً : من الأفضل أن تتصل به وتخبره بهذا شخصياً ، لا تنسى .. اسمه سام ماركوس إياك وارتكاب أي خطأ ..

سام ؟!!

ما الذي يخطط لفعله به !!

ضيقت عيناي بشك وحتى عندما أغلق الهاتف ونظر إلي بملل : ماذا ؟! ليس وكأنني استأجرت أحد المرتزقة لقتله ..

_ أتقول الحقيقة ؟ بدت المكالمة مبهمة إلى حد كبير ..

_ كفاك سخفاً هو ليس قابل للقتل حتى ..

انفجرت ضاحكاً رغماً عني فابتسم بسخرية وتنهد : انه امر قديم علي تسويته .

عقدت حاجباي بعدم فهم : ما خطبك بحق الإله ! في الأمس أتى رجل أيضاً إلى هنا وسمعتكما تتحدثان في حديقة المشفى ، أنا حتى لم أصدق أذناي وقد كنت تعتذر له برسمية !! لقد كان يرتدي زي أحد المطاعم وبدى مستاءً منك كثيراً .. ! اعترف بسرعة ما الذي يحدث !

قلّب عينيه بملل : لا تحشر أنفك ..

_ ماذا عن سام !

_ كنت السبب في خسارته لفرصة عرض الصور التي يرغب في عرضها للبيع في أحد المعارض وها أنا ذا أصفي الحسابات القديمة وحسب ..

_ اللعنة لماذا فعلت امراً كهذا ! لو علم فسيقتلك حتماً ..

_ اخرس ..

أضاف يرفع كتفيه بملل : جهزت له فرصة أكبر وأفضل في معرض عالمي في مدينته ليسهل الأمر ..

أردف يتحرك بثقة متجهاً إلى غرفة جيمي : لم يكن ليحلم بهذه الفرصة حتى ..

ي .. يا الهي !

يا الهي ولا شيء أخر لدي لأقوله ..!

جينيفـر :

انتزعت القلم الذي كنت أثبته فوق أذني لأكتب فوراً الملاحظات التي توصلت إليها وأنا ألقي بجسدي على الأريكة بخبث وأضحك بثقة وسعادة ..

كما توقعت ..

لقد زادت مبيعات شركته عندما اشترى المنتجات الممنوعة من السوق السوداء .. أراهن على أنها ستكون فضيحة كارثية أليمة ، يستحق هذا .. لم يتوقف عن تهديدي طوال الوقت بالتراجع عن الخبر الذي نشرته بشأن صلته العميقة بأحد أكبر تجار المخدرات في المكسيك .. سنرى الآن من منا سيبتسم في وجه الآخر ..

لعقت شفتي وقد تحرر الشيطان في داخلي وأنا أحرك اصبعي على المؤشر في حاسوبي لأفتح تصوير فيديو يظهره في زيارة إلى أحد المصانع المهجورة .. الأمر ليس بحاجة إلى التفكير العميق ، لا بد وأن الاجتماعات السرية كانت كلها هناك ..

هه ..

الإستهانة بقدراتي أسوأ قرار ممكن ..

ابتعدت عن الأريكة بسرعة وتركت دفتر الملاحظات بعيداً عن يدي .. آه ان كنتم تتساءلون لماذا الجأ إلى الكتابة بدلاً من تدوين كل شيء على الحاسوب او الهاتف الذكي فالأمر ببساطة أن التكنلوجيا معرضة دائماً للإختراق .. وهذا أمر لن يحمد عقباه بالطبع ..

القلم ..

أفضل صديق سري في الزمان الحالي ..

العالم يتجه الى الألواح الذكية ..

في حين يتجه المدون الأذكى إلى الورق الذي لن يُخترق ..

اتجهت إلى المطبخ لأخرج من الثلاجة قارورة عصير طازج ثم عدت إلى غرفة الجلوس لأرتشف القليل وأفكر بروية حول المقالة القاضية التي سأكتبها بنفسي ..

كما أنني فخورة حقاً بجميع الموظفين الذي يعملون تحت امرتي ، الكل مجتهد والجميع يسعى لكشف الحقائق السوداء ..

ليس وكأنني استهدف أي مشهور وحسب .. بل المشاهير اللذين يتعمودن رسم الابتسامة الزائفة في حين يتأذى العشرات بسببهم أو يكسبون حب الملايين بطرق غير مشروعة ..

رفعت قدماي على الطاولة وارتشفت من العصير بهدوء ..

أكره الاعتراف بهذا ..

ولكن كبت النفس بهذه الطريقة مزعج حقاً .. مضى أسبوع ونصف منذ أن غادرت وعدت إلى هنا لأجل العمل ..

لم أرى اسمه على هاتفي أو حتى رسالة واحدة منه ..

كم هذا مخيب ..

أعتقد أن الأمر في النهاية يقتصر على كونه تجربة ..

ولكنني اشعر بالألم حقاً ..

بالوحدة والعزلة وان حاولت الهاء نفسي بالعمل !

أنا حتى لم أعد أسرح شعري سوى مرة واحدة في اليوم ، لم أعد أضع سوى قناع الخوخ قبل النوم وأتجاهل الأقنعة الأخرى الضرورية ، لم أعد أدلك منطقة الأرداف التي أخشى أن تتكدس الدهون فيها لاحقاً ! ولم أعد أتناول الفطور بالسعرات المحددة بل أزيد ما يقارب المئتين سعرة وهذا خطير بلا شك .. ماذا لو اكتسبت وزناً الآن !! ماذا لو لم تعد بشرتي ناعمة .. وماذا لو قلت جاذبية اطلالتي ؟!

تنهدت بلا حيلة ونفيت برأسي وقلت بصوت عالي حازم : توقفي يا جينيفر .. ذلك الأشقر لم يكن ليهتم بأمرك فلا تقللي من شأنك بهذه الطريقة ..

و .. ولكنني أحبه !

اللعنة على الحب وعلى من يكتب القصص العاطفية التي ألجأ إليها مساءً وأتخيل رين فيها ، اللعنة على الأفلام التي أرى فيها وجهه المزعج وعلى كل أشقر جذاب أتخيله هو ..

تقوست شفتاي بحزن ولكنني سرعان ما ضربت وجنتاي بقوة عدة مرات وارتشفت العصير دفعة واحدة وقد قررت الإنغماس في العمل والتركيز على المقابلة وحسب ..

شــارلـوت :

البسمة لا تفارق شفتاي ، منذ مغادرة الجامعة وحتى الوصول إلى الحي ..

لا اًصدق أنني انهيت آخر اختبار وأخيرأً !

أكاد أحيي كل شخص أراه وأسأله بحماس : هل تراهن على أن هرمون السعادة قد يفرز كمية تميت الجسد والعقل !

هذا ما أشعر به ..

يا الهي انها الحرية أخيراً ! الراحة النفسية وقد انهيت آخر اختبار ، كل ما سأنتظره هو النتيجة وحسب ومع ذلك لست خائفة أو قلقة حقاً .. بذلت مجهوداً كبيراً وفعلت كل ما يمكنني فعله ، أمضيت وقتي كله في الدراسة من الصباح وحتى المساء منذ أول اختبار وحتى اليوم فجراً ..

أرجو ان أحصل على درجة الامتياز التي سأفخر بها وكذلك تفخر بها عائلتي وترفع رؤوسهم جميعاً ..

ارتفع حاجباي باستغراب واختفت ابتسامتي بالتدريج وقد لمحت السيارة السوداء اللامعة أمام منزلنا ..

هذه السيارة ..!

كريس هنا ؟؟

لم أشعر بنفسي وأنا أسرع في خطواتي ، صعدت الدرجات الثلاثة ودخلت المنزل بلهفة ..

لأسمع صوت أمي وأبي اللذان يضحكان وصوت آخر أيضاً ..

هذا الصوت ! اتسعت عيناي بدهشة واتجهت إلى غرفة الجلوس لأطل برأسي وأرى الضحكات البريئة للجسد الصغير الجالس بين أمي وأبي ..

همست بعدم استيعاب وسعادة بالغة : جيمي !!

نظروا إلي فاتجهت فوراً إليه وجثيت على الأرض أمامه أعانقه بحب وأربت على رأسه : يا الهي ما الذي تفعله هنا ! تبدو أفضل حالاً وأكثر حيوية ..

ابتعدت عنه اتأمله بلطف ثم نظرت إلى الجبيرة حول ساقه وتساءلت : متى خرجت من المشفى !

أجابني بابتسامة واسعة : اليوم بعد تناول الفطور مباشرة ..

أضاف مشيراً خلفي : طلبت من أبي أن نأتي لرؤيتك ولم يمانع .. متى ستعودين معنا إلى المنزل ؟

نظرت خلفي إلى من يجلس يهز قدمه اليسرى بخفة ، وحين التقت أعيننا تمتمت بحيرة : كريس .. أخرجته من المشفى إلى هنا فوراً ؟

رفع كتفيه : لم يتوقف عن الإلحاح علي ..

عاودت أنظر إلي جيمي أمرر يدي في شعره العسلي بشوق : هذه أفضل مفاجأة بعد اخر اختبار .. أشعر بالتجدد بالفعل !

أعقبت بإهتمام : وكيف هي عيناك الآن ؟ لا زلت تتحسس من الأضواء صحيح ؟

أومأ مفكراً : أنزعج من النظر إلى الاضاءة ..

_ هكذا إذاً .. !

ابتسمت أمي تحدق إلى جيمي بشرود ولطف : كم هو لطيف وظريف ..

نظر جيمي إليها باستغراب : أنا ؟

ضحكت بخفوت وأنا أقف في حين قالت أمي : ومن غيرك يا جيمي ..! لو كنت قابلاً للأكل لاخذت منك قضمة .. اسمع ما رأيك أن نذهب إلى المطبخ ونعد معاً شطائر لذيذة ونتناولها مع الشاي ؟

فغر فمه بحماس : حقاً ؟ وهل سيساعدني جدي أيضاً ؟!

ضحك أبي بسرور : نعم سيساعدك جدك ..

_ جدتي .. لنعد الكعك أيضاً ..

تنهدت أمي بلا حيلة : فلتناده بجدك ولكن نادني بالخالة أو العمة اتفقنا ؟ توقف عن تكرار هذه الكلمة التي تجعلني أبدو مجرد عجوز خرفة وإلا ..

قالتها محذرة بتهديد وهي تقرب يديها من بطن جيمي وتدغدغه على حين غرة لينفجر الآخر ضاحكاً ..

يبدو أن أمي تحمل دماءً تتشارك بها الجدة هيذر التي تكره سماع هذه الكلمة !

ابتسمت بدوري بعفوية وقلت على عجالة : سأغير ملابسي وأنزل حالاً .. لن أتأخر ، لنعمل معاً على اعداد الكعك والشطائر ..

أضفت أرمق كريس بسخرية : استغل الفرصة لعلك تتعلم شيئاً من فضلك بدلاً من بقائك مشرفاً على الأداء للأبد ..

رسم ابتسامة جانبية هازئة : حين أقرر تعلم أي شيء فسأكون من يقرر ذلك .. لا تتصرفي كشيف في مطعم إيطالي شهير ..

قلّبت عيناي بلا اكتراث وتساءلت باستيعاب : أين سام !

أجابني أبي واقفاً وهو يحمل جيمي بسرور : خرج قبل لحظات من مجيئك ..

خرج من غرفة الجلوس لتكمل أمي عنه وهي تقف : شقيقك يبدو مفعماً بالحيوية كثيراً منذ ان اتصل به مسؤول احد المعارض العالمية وعرض عليه المشاركة في موقع استراتيجي في المعرض حيث ستكون فرصته أكبر في جذب انتباه الزوار ..

صحيح .. يبدو فاقداً لعقله منذ الأمس بالفعل ! لا يمكنني لومه فلطالما كان يطمح لعرض الصور في مكان ملائم وجاذب !

لكن هذا غريب .. كيف حصل على فرصة كهذه !!

خرجت أمي في حين نظرت إلى كريس بحيرة وتفكير قبل أن أسأله : هل لك دخل في هذا ؟

رفع كتفيه بفتور ولا مبالاة فاتسعت عيناي بدهشة : انه انت حقاً !

اقتربت منه بحماس أضرب كتفه بخفة : سام سيكون سعيداً جداً ليحظى بفرصة كهذه ! ومع أنني نسيت الأمر تقريباً ولكن .. يا الهي يا كريس أنت .. أنت ..

بحثت عن الكلمة الأنسب والتي تبخرت من الحماس والسعادة حتى جذبني من خصري يقربني إليه هامساً وعينيه تهيمان على وجهي : أنا ماذا ؟

ازدردت ريقي بتوتر وقد بدأ مفعول التخدير المعتاد كلما حدقت إلى عسليتيه هامسة : أ .. أنت تتغير باستمرار للأفضل ، بادرت من تلقاء نفسك إلى محو الأخطاء التي يمكنك تغييرها ، هذا امر جميل بحق ..

ابتسم بهدوء وانزلقت عينيه نحو ثغري متسائلاً بصوت خافت : أصرت والدتك على ان اتناول العشاء هنا ، ولكن بعدها سنعود إلى المنزل لنأخذ جيمي إلى المنزل ، ثم سنخرج معاً وحدنا إلى منزلي على الشاطئ .. عُلم ؟

أ ..

الشاطئ !!

شهقت بخفة وانا انتزع نفسي لأبتعد عنه وأصرخ بتوتر والحرارة تندفع إلى وجنتاي : ما الذي تظن نفسك فاعل !

_ لم أفعل شيء !

_ أ .. اقصد ما تقوله الآن ! توقف عن هذا حالاً الأمر ليس مضحكاً .. ، وكأنني سأرغب في الذهاب هناك .. ف .. فلتذهب بنفسك أنا لن أرافقك ..

ولكنه ابتسم وفي عينيه بريق ماكر وتحرك ليغمز : سنرى ان كان هذا ما ستتفوهين به هناك ..

_ تحلى ببعض الأخلاق أيها الأحمق !

اتجه ليخرج من غرفة الجلوس ولكنه توقف ونظر إلي من فوق كتفه وقد اتسعت ابتسامته بلطف جعلني أتسمر في مكاني وأذوب كالجبل الذي أشرقت الشمس عليه بعد مضي ليالي البرد القارص .. ولكن سرعان ما تحول الذوبان إلى وضعية التجمد الجامح وقد تمتم وفي صوته متعة الرغبة في اشعال لهيب ارتباكي : غير مسموح لكِ بالهرب .. إلا ان اضطررتني للعب دور الخاطف المجنون ..

رفعت يدي نحو ثغري امنع شهقة الخجل من الافلات بصعوبة .. في حين خرج ببساطة تاركاً إياي أقف والدماء تغلي في عروقي ..

ل .. لا أدري كيف يجرؤ حقاً ! لن أذهب مهما حدث حتى لو اضطررت لأخذ جيمي معنا ، مجرد التفكير بالأمر يجعل درجة حرارتي ترتفع فوق المعدل الطبيعي للإنسان !

اللعنة كيف يقول هذا بكل بساطة واريحية ! ع .. علي أن أتمالك نفسي .. ولكن الدماء لا تزال تغلي كما لو كانت حمم بركانية في فوهة عميقة .. سحقاً كم هو بارع في ارباكي واللعب بأعصابي ..

تـيــا :

نظرت إلى مكتبي المزدحم بالأوراق والجداول متنهدة بتعب شديد وأنا أقف مرتبة المكان قليلاً وفي الوقت آنه أجيب على المكالمة وأضع سماعة هاتف المكتب فوق كتفي أسندها بينما أتحدث بإنهماك ..

وعندما انهيت المكالمة عاودت انظر إلى الأوراق بتردد شديد مفكرة في ان كان علي فتح الموضوع معه الآن أو الانتظار قليلاً بعد ..

لا أدري حقاً ..

ولكن .. علي حزم أمري بسرعة ، غادر إيثان إلى عمله قبل بضعة أيام فقط وترك لي مهلة التفكير بالقرار بروية كما أشاء لئلا يجبرني على أي شيء .. ومع ذلك فكرت بالأمر طويلاً حتى توصلت إلى قراري الخاص ..

نظرت بعيناي إلى نهاية الممر حيث المكتب الذي كُتب فوقه " الإدارة التنفيذية .. "

هل أذهب ؟!

يا الهي أنا حقاً متوترة ولا أعلم كيف سأفتح الموضوع حتى ..

عضيت على شفتاي قبل أن أغمض عيناي مهدئة نفسي ، تحركت ببطء نحو المكتب ووقفت أمامه للحظات قبل أن أستجمع شجاعتي وأطرق على الباب ..

أتى صوته يأذن بالدخول ففتحت الباب ببطء ..

لا ادري كم دام الوقت وأنا أفتحه بهذا البطء المثير للسخرية حتى سمعته يتنهد : إلى متى ؟

اسرعت ادخل وأغلقت الباب خلفي ، كان يجلس على الكرسي وينظر إلى شاشة الحاسوب وقد نزع السترة السوداء ووضعها حول ظهر الكرسي ، مشمراً كلتا يديه ويبدو منهمكاً في العمل ..

هل هو الوقت المناسب حقاً ؟

زميت شفتي بتردد وانا اقترب فأتى سؤاله دون ان ينظر إلي : ما الأمر ؟

جلست على الكرسي المقابل لمكتبه وعبثت بتنورتي السوداء القصيرة أخفف من توتري حتى سئم الانتظار وابتدرني : تيا .. ماذا هناك !

أومأت له كما لو كنت اطالبه بان ينتظر قليلاً حتى سألته بطريقة مراوغة : كريس .. ك .. كيف هي الأعمال المتراكة الآن ..

عقد حاجبيه باستغراب وابعد عينيه عن الشاشة ينظر إلي بتمعن ، ثم وجه إهتمامه لي مجيباً : لا شيء متراكم في الوقت الحالي .. من المفترض أنكِ تعلمين هذا ..

أضاف بهدوء : ما الذي تريدين التحدث بشأنه ؟

_ ح .. حسناً إذاً .. سأكون واضحة ، كما ترى .. نحن نعمل هنا معاً منذ وقت طويل و .. حظيت بأفضل الأوقات في العمل في هذه المؤسسة الناجحة و كنتَ أفضل زميل يا كريس .. سعيدة أنك تدير المؤسسة الآن و..

_ خلاصة القول ؟ لماذا تتحدثين كما لو كنت سأموت بعد دقائق !

نفيت بسرعة ورفعت يدي اعبث بطرف طاولة مكتبه : لقد كنت أفكر منذ فترة و اظنني توصلت إلى قرار محدد .. ومع ذلك أخشى ان تنزعج .. أو ربما لن يزعجك الأمر حقاً ولكنني لا أدري إن كان الوقت مناسباً ..

اسند وجنته على كفه بتبرم : أؤكد لكِ ان الوقت مناسباً .. والآن تحدثي .

_ بصراحة ..

_ نعم ؟

_ إنه بشأن اقتراب موعد زواجي ، كنت أفكر أنا وإيثان و.. أظن بأنه من الضروري أن يستقر كلانا في مكان واحد مناسب لضرورة استقرار زواجنا أيضاً ، هو يفضل البقاء في الشركة التي يعمل فيها ويبدو العمل مناسباً جداً هناك ، كما أنه سيحصل على ترقية قريباً ومن الصعب تقديم استقالته ..

_ لماذا تخبرينني بهذا فجأة !

_ ل .. لأنني .. أرى أنه من الضروري أن أتنازل هذه المرة لأجله و .. أنتقل للعيش معه حيث يعمل ..

أضفت على مضض أطرق برأسي : أتيت لأستشيرك يا كريس .. أقصد لأخبرك أنني سأقدم استقالتي لأسهل الموضوع على كلانا ..

لقد قلتها أخيراً..

ولكن هذا حقاً صعب !

عملنا معاً منذ سنوات طويلة ومن الصعب قولها هكذا ببساطة !

عندما لم يعلق نظرت إليه بتوتر لأرى الدهشة تعتلي ملامحه !! ليقول مستنكراً مبعداً كفه عن وجنته ومعتدلاً في جلسه : تستقيلين !

أومأت بإستياء : انه القرار الأفضل في حالة كهذه ، المدينة التي يعمل فيها بعيدة جداً ومن الصعب موازنة الأمور الا بهذه الطريقة .. قضيت أفضل الأوقات في هذه المؤسسة وأعلم أنه قرار صعب علي خصيصاً ولكني .. هذه المرة علي التضحية لأجله .. أ .. أقصد كما تعلم لقد تنازلت عن مشاعري تجاهه مرة ولكن هذه المرة يأتي دوري أنا .. اليس كذلك ؟

عقد حاجبيه واتسعت عسليتاه أكثر : ما هذا الهراء ! لماذا لا يأتي للعمل هنا وحسب !

_ هذا صعب .. كريس عليك أن تستوعب أن علاقتكما لن تعود كما كانت بهذه السهولة ، هو يرى ان عودته للعمل هنا قرار مهين في حقه ، ولهذا أخبرك أنني من تتنازل هذه المرة ، تخليت عنه مسبقاً ولا أنوي تكرار هذا الخطأ مجدداً ..

_ ماذا عني !

_ هـ .. هاه !

_ أقصد ماذا عن العمل هنا ! أنتِ لن تجدي راتباً أفضل من راتبك الحالي كما لن يكون من السهل احضار سكرتيرة بمثل الخبرة التي تتمتعين بها ، لما لا تفكري بـ..

_ كريس .. أعلم أن قراري هذا يزعجك ولكن .. لا مزيد من الوقت لأهدره ، لا تقلق بشأني سأتدبر أمري هناك ، إيثان لم يتخلى عني لحظة واحدة يا كريس قبل شهرين عندما كنت أمر في حالة سيئة .. علي أن أرد له الجميل .. على كلانا ان يكافح ليستقر زواجنا ، ليس من السهل اخبارك بهذا وقد بدأنا مسيرتنا المهنية في الوقت آنه واستمرينا معاً حتى اليوم ..

نفي برأسه بعدم تصديق وقد وقف بإنزعاج ليدفع الكرسي بعيداً وتحرك نحوي ليقف أمامي مجادلاً بعدم اقتناع : يمكنني التحدث معه إن أردتِ .. سأخبره أنني سأوفر له وظيفة مناسبة لخبرته ومؤهلاته ، ولكن ليس عليكِ الانتقال للعيش في مدينة أخرى بعيدة ! إن رفض ذلك فلا زال هناك فرع آخر للمؤسسة في شمال هذه المدينة لذا لا داعي لتعقيد الأمور .. وإن رفض هذا أيضاً فلدي الكثير من المعارف والزملاء اللذين يديرون أعمال ومؤسسات أخرى !

وقفت أواجهه مباشرة بأسى وأربت على كتفه برفق : كريس أنتَ خصيصاً ستفشل في هذا وكلانا يعلم السبب .. لا تجعل شعور كوني لئيمة يسيطر علي ، أربعة عشر عاماً لم أبتعد فيها عنك ولم أكن لأقرر قراراً كهذا بسهولة ! ولكن لا تدع الأمر يبدو وكأنني سأهاجر بعيداً .. !

لأول مرة ..

لأول مرة منذ ان التقيت بكريس في المرحلة المتوسطة ..

أشعر أنني الصديقة المرغوب في بقائها إلى جانبه ! لأول مرة أشعر ان ابتعادي ليس بالأمر الهين عليه !

لا فكرة لديه كم يسعدني هذا .. وفي المقابل لا فكرة لديه كم يصعب علي الأمر أكثر !

أنا حقاً اجاهد نفسي لأقول هذا !

أشاح بوجهه بعصبية وعاد ليجلس على الكرسي مجدداً وقال بحدة دون أن ينظر إلي : افعلي ما شئتِ ..

عبست متنهدة بلا حيلة واقتربت منه أشد شعره ممازحة بحركتي وكذلك مسايرة : كريس من فضلك توقف عن التصرف بصبيانية .. أخبرني إذاً ..

أعقبت بصوت خافت : هل ستكون سعيداً إن ازدادت ترتيبات زواجي تعقيداً ؟ وهل سيرضيك أن يعاود إيثان البحث عن وظيفة أخرى رافضاً كل السبل لقبول مساعدتك ؟ وهل تجاهل رغبة إيثان في أن نعيش معاً ونحظى بحياة هادئة أسهل للعيش أمر هين ؟ هل حقاً تظنني قادرة على الوقوف مخيرة مرة أخرى بينكما ؟ اخترتك في المرة الأولى وعلي أن أعدل الآن واختاره !

ظل يشيح بوجهه بحزم ومع ذلك ارتخت ملامحه قليلاً وظهر بريق التردد الخافت في عينيه فقلت بلطف : أنا لست بفتاة صغيرة لأواصل الاعتماد عليك والتصق بك أينما ذهبت ، وأنت لست صغيراً أيضاً لتصر على ضرورة وجودي هنا بجانبك ! لديك شارلوت .. ولدي إيثان ، لا تجعل الأمر يبدو كما لو كنا سنفترق للأبد .. سنتزاور في المناسبات والإجازات أيها الخطل لذا كف عن التصرف بحماقة ! سأتصل بك يومياً وأزعجك حتى ينفذ صبرك .. سأجعلك تكره مجرد رؤية اسمي على شاشة هاتفك ..

وأخيراً .. أرى شيء من الاقتناع على وجهه !

ابتسمت بأمل حتى قال على مضض : قلت لكِ افعلي ما شئتِ ..

_ كريس !

_ لا حق لي في الاعتراض على أي حال فلماذا تخبرينني ..

_ ها قد بدأنا .. أنت لن تتحدث هكذا إلا إذا كنت منزعجاً ..

_ لست كذلك ..

_ أنت كذلك ..

_ هي حياتك الخاصة كما انها قرارت مصيرية لا شأن لي بها ..

ازدردت ريقي بصعوبة بالغة في حين تنهد بعمق باستسلام ومرر سبابته وابهامه بين حاجبيه وهمس : تيا .. أنا لن أقف في طريق سعادتك ، عرضت عليكِ أن أساعده في إيجاد وظيفة هنا لئلا تكونين مضطرة للرحيل ولكن الأمر ليس بهذه السهولة ..

بدى يهدئ نفسه قبل أن ينظر إلي بتمعن حتى أخذ شهيقاً وزفره ببطء ، ثم رسم ابتسامة مسايرة هادئة : ولكن مستقبلك وسعادتك معه .. ليس باليد حيلة ..

أومأت بعين دامعة وتقدمت أعانقه : تلقي سيلاً من الكلام الحازم ثم تتحدث فجأة بلطف غير مسبق .. هذا أنت حقاً ..

أضفت بلاحيلة : ولكنني أعلم أنك تشعر بما أشعر به تماماً ، خضنا مسيرة طويلة معاً وأدرك صعوبة التوقف هنا .. بصراحة أشعر أنه أصعب قرار قد اتخذته حتى الآن ، لماذا علي أن ابتعد عنك وأعمل في مدينة أخرى .. آه ما هذه الحماقة التي أقولها ، إيثان يجتهد في عمله حقاً ولم يقصر معي في أي شيء .. علي أن أترك العاطفة جانباً في مواقف كهذه صحيح ؟

_ لا تقارني أخاك بزوجك أيتها المغفلة .. على كلِ ابتعدي عني لدي الكثير من العمل .

_ قلت للتو أن لا عمل لديك ..

ابعدني عنه وأسرع يشيح بوجهه وهو يجلس ..

حسنا هي طريقته الملتوية ليخفي مشاعره ..

ولكن على الأقل توصلت إلى نهاية مرضية ، ومع هذا .. ألا يعتقد أنه تأخر كثيراً ليخبرني بشكل صريح أنه أخي ؟

هذا البخيل ..

جينيفر :

أين وضعتها !!

ألم تكن هنا آخر مرة ؟

جثيت على الأرض باحثة أسفل السرير ولكن بلا فائدة ، خرجت من الغرفة التي اكتسحتها الفوضى بسبب البحث في كل مكان وقد اتجهت الى غرفة الجلوس أكمل البحث ..

أتذكر أنني وضعتها على المنضدة في غرفتي فأين عساها تكون !!

عضيت على شفتي بغضب وقد صرخت بنفاذ صبر : اللعنة على آلة التصوير حين أحتاجها ..

تلى صرختي صوت جهاز التسخين في المطبخ فركضت مسرعة لأخرج الطبق وأضعه على رخامة التحضير ..

وكأنني سأستطيع تناول الغداء بعد هذه المصيبة ! أنا حقاً لا أدري أين اختفت .. هل تكون في مكتبي في المؤسسة يا ترى !

لا حل سوى الإتصال بالسكرتيرة وأطلب منها البحث في مكتبي إذاً .. أنا بحاجة إلى تصوير بعض الأشياء بنفسي لأضعها في المقالة ، سأزور الموقع برفقة بعض المساعدين وسألتقط الصور التي أحتاجها للمكان .. سيكون هذا ملفتاً للنظر ويساهم في رفع قيمة المقال أكثر ..

رفعت شعري بإهمال وبعشوائية وجلست على الكرسي في نية بدء تناول الغداء ..

ولكنني عاودت أقف لأخرج عصير التوت الذي جهزته بنفسي في الصباح ..

العمل سيقتلني حقاً ولا بد لي من إعادة الهدوء إلى جسدي ، ولا سيما العضلة التي تحتاج إلى الطاقة الكاملة لتضخ الدماء باستمرار وتقيني من التجلطات المميتة .. إضافة إلى حماية بشرتي دائماً من أي عدو قد يتسلل إليها كالبثور أو حتى اللعنة التي تسمى تجاعيد ، كما أنني بحاجة إلى وقاية عيناي من الهالات السوداء المزعجة والتوت هو الخيار الأمثل بلا شك ..

ارتشفت القليل ووضعت الكأس ثم رفعت الملعقة نحو فمي ولكنني سرعان ما توقفت بحيرة أسمع صوت جرس المنزل ..

ومن يكون الآن !

مهلاً مهلاً ..

لا يجب أن أفتح الباب لأي شخص في وقت كهذا ! أعدائي يتربصون بي وأنا واثقة أنهم يكيدون لي كلما سمحت لهم الفرصة ..

ومع ذلك تحركت بحذر متجهة إلى الباب .. نظرت عبر العدسة ولم يكن سوى أحد المندوبين الذين اعتدت التعامل معهم ..

زفرت بلا اكتراث وفتحت الباب أستلم الطرد منه لألمحه ينظر إلى يساره بحيرة ثم عاود يولي اهتمامه إلى الورقة التي أوقع عليها ..

وعندما انتهيت وتراجعت بضع خطى للوراء قال مشيراً بإبهامه : آنسة جينيفر هو أيضاً يريد التحدث معكِ على ما يبدو ..

ارتفع حاجباي : من هو؟

ولكنه رفع كتفيه بعدم معرفة واستأذن ليغادر واتجه لليسار نحو المصعد ، لم أكد أخرج رأسي بفضول حتى شهقت بدهشة وذهول وعدت للوراء بتلقائية !!

تقدم نحوي بهدوء تام ممسكاً بحقيبة سوداء متوسطة الحجم ، بل ولم ينبس بكلمة وهو يدفعني الى الداخل ويغلق الباب خلفه بقدمه ويلقي الحقيبة جانباً !!

حلم ؟

لا بل واقع ..

كيف !!

ما الذي حدث هنا ؟!

لم أكد أفتح فاهي حتى تفاجأت به يدفعني نحو الحائط وقبل أن أستوعب الأمر استقرت شفتيه على خاصتي !

بـ .. بحق خالق الكون ؟!

إن كان هذا واقعاً .. فكيف ولماذا ؟!

حاولت استيعاب الأمور وانا ابعده ولكنه أبى ذلك !

بل أمسك بكلتا كتفاي وباتت قبلته أعمق مما جعل عيناي تتسعا أكثر ، أنظر إلى الشعر الأشقر المستقر أمام مقلتاي ! كيف أتى إلى هنا ؟ من أين له بعنواني ولماذا هو هنا أصلاً ! يا الهي .. يا الهي ماذا أفعل ؟! كيف أتصرف !

ذابت التساؤلات في جوفي ولم أشعر بنفسي وأنا أغمض عيناي باستسلام تام دون أن أفهم أي شيء ، لا أدري حقاً ما الذي يحدث ..

ولكن لا بأس طالما أسقي شوقي الذي كان ينهش ويأكل عقلي طوال الوقت ..

لا بأس طالما أروي الظمأ لسماع صوته ..

ابتعد ببطء ففتحت عيناي بوهن أحملق فيه بجسد مرتجف غير متزن البتة !

لأقابل مقلتيه بلونهما الأزرق الفاتح كحجر الزفير الكريم ذو اللون السماوي الجذاب .. ولا أدري إن كنت أبالغ حقاً أم أن عيناه أخذتني فوق السحاب !

همست بإسمه بضياع .. بتشتت وضعف شديد فتفاجأت بابتسامة هادئة على ثغره ، بل وأحاط خصري بيديه واسند ذقنه على كتفي ليهمس أخيراً : تم طردي من المنزل ..

هاه !

طُرد من المنزل ؟!

طرفت بعدم تصديق وتساءلت بإندفاع : ما الذي تقوله !

_ لم تحتمل والدتي تصرفاتي التي تطلق عليها مسمى العقوق والتمرد .. مع أنني كنت أدافع عنكِ وحسب .. أخبرتها أنكِ مجرد عازبة مغفلة لا تحمل أي نوايا سيئة .. ظننت أنها ستقتنع بالفكرة ولكن طفح الكيل بها ..

_ هل تقول بأنك .. حاولت إقناعها بشأن علاقتنا ؟

_ فشلت ..

_ وطُردت !؟

_ تماماً ..

أبعدته عني نافية بقلق : ما الذي تهذي به ! أنا لن أرحب بك بهذه الطريقة يا رين ! أنا لا أريد أن تنهار علاقتك بوالدتك لتنجح علاقتنا ! ما الذي تظن نفسك فاعل تحديداً ! عليك أن ..

رفع يديه بلا حيلة : ليست المرة الأولى التي تتصرف فيها هكذا ، ستهدأ قريباً وستتصل بي لتدعوني للعودة إلى المنزل .. هذا ما يحدث دائماً ..

_ و .. ولكن !

بدى منزعجاً كثيراً وقد استوقفني بإقتضاب : إن كنت ضيفاً غير مرغوب فيه فسأغادر فوراً ..

قالها بشيء من المكر وهو يترقب ردة فعلي فنفيت فوراً ببلاهة وأمسكت بيده بتوتر : بالطبع لا أمانع .. ولكن من الصعب تصديق ما يحدث حقاً ! أنت حتى لم تقل أي شيء وقد رحلت عني ، لم تتصل حتى هذه اللحظة ولم تحاول التواصل معي !

_ وها أنا ذا هنا ..

أردف يشد على يدي بهدوء : فكرت قليلاً .. إن لم يكن الحديث والحوار سيعود بالنفع على محاولة اقناع أمي فلم يعد هناك سوى حل واحد ..

ارتفع حاجباي بإهتمام : ألا وهو ؟

_ وضعها أمام الأمر الواقع .. ومع الوقت قد تلين ببطء ..

_ ما الذي تقصده ؟!

ازدرد ريقه بوضوح ونظر بعيداً لثواني قبل أن يتنفس بعمق .. ثم ضمني إليه يعانقني هامساً في أذني : لنتزوج ..

اليست هذه الصدمات كثيرة علي في وقت واحد ! ما الذي يقوله الآن بربكم ؟! لا يمكن حقاً لم أعد أحتمل ما يقوله سأفقد وعيي !

صرخت كالخطلة بعدم تصديق : كفاك سخفا يا رين !

_ هل اعتبر هذا رفضاً ؟

_ أنت جاد !

_ لست متفرغاً للمزاح الآن !

قالها بعصبية وقد أبعدني بإنزعاج وزفر : لنتزوج ونعلمها بالأمر لاحقاً سيكون هذا أفضل ، ليس وكأن استشارتها ستساعدنا في أي شيء ..

_ ألا تعتقد أنك تتهور كثيراً !

_ اكتفيت ولم يعد التأني يعود بالنفع في هذه الحالة ..

_ ولكنها والدتك ..

_ ولهذا لا أريد خوض حرباً معها ، لذا أخبرك أن نضعها أمام الأمر الواقع لعلها ترخي راية الحرب بنفسها ..

ثم بدى حازماً مغتاضاً : كما أنني مطرود الآن لا يمكن أنكِ ستطلبين مني الرحيل أيضاً !

هكذا إذاً ! ما يحدث واقع وليس ضرب من خيال .. رين يعرض الزواج علي !!

بل ويتعذر بكونه مطروداً وأنا أدرك جيداً أنه قادر على المبيت في أي مكان آخر فليس وكأن عائلته لا تملك شقق خاصة في مدينته ..

ارتخت ملامحي أحدق إليه بتأمل ، كل ما كنت أرجوه هو لقاؤه أو سماع صوته حتى .. ولكنه ظهر من العدم فجأة يطلب الزواج مني ! أخشى ان الحياة انحازت لي بشكل مبالغ وتريد مفاجأتي لا حقاً بالكوارث ..

ومع ذلك نفيت برأسي أنفض التشاؤمات عني وابتسمت بسعادة أقترب إليه وأدفن وجهي في صدره : وأنا التي ظننتك تكره عنصر المفاجآت ..

رفع يديه يبادلني العناق فهمست أغمض عيناي : رين الصغير قد بات رجلاً ناضجاً يتقدم للزواج حقاً ..

_ اخرسي ..

_ كنت أثني عليك ..

_ تعلمين أنني أحبك .. صحيح ؟

_ بالطبع أعلم .. هنيئاً لك الخروج من قوقعة الجُبن أخيراً ..

أولين :

الحديقة تنضح بالضجة والحياة ، المكان مفعم بالحيوية الإيجابية ..

الابتسامات تكتسح اوجه الجميع ..

الكُل مجتمع على طاولة الطعام التي تم ترتيبها وتجهيزها هنا في حديقة المنزل حيث رتب جوش وكريس لاجتماع الجميع في وقت مناسب ، حيث تيا وإيثان أتيا من المدينة التي استقر كلاهما فيها بعد الزفاف ، وكذلك ستيف الذي أنهى الفصل الأخير من الجامعة وبات متفرغاً الآن ، والدا شارلوت اللذان ينسجمان تماماً مع كلوديا وجوش ، سام الذي سمعت أنه قد توالت عليه العروض من عدة مؤسسات للإعلام وعرضت عليه أن يكون أحد المصورين الموهوبين وقد تمتد الفرص إلى مجال الفن والسينما .. جيمي وشارلي اللذان يقفان بالقرب من هنا ويمرحان معاً بالطائرة الجديدة ذات التحكم عن بعد والتي اشتراها كريس قبل يومان فقط .. أما الأخير فهو ليس هنا بعد وكذلك شارلوت ..

اعتاد ان ينهي عمله في الشركة ثم يخرج ويأخذها في طريقه من المشفى الذي بدأت العمل فيه قبل خمسة أشهر تقريباً ..

برأيي ..

كل شيء يسير على ما يرام ..

كل الأوضاع هادئة ومرنة بين الجميع ..

كل منهم يبدو وكأنه وجد اللوح الخشبي العائم فوق مياه البحر ليرسلهم إلى الساحل ..

أعتقد أن الأشهر الماضية لم تكن فترة طويلة بصدق .. ولكن حدث الكثير فيها ، أكره قولها حتى في أعماقي ، ولكن ماكس رغب في هذا وبشدة .. وكأنه كان يعلم في قرارة نفسه أن بوفاته سيوجه صفعة للجميع ..

استغل اللحظات الأخيرة في اشباع عينيه وتأمل العائلة التي تشعره بالدفء وإن كانت مليئة بالمشاكل والكوارث والحروب ..

كم أفتقده وأفتقد ابتسامته اللطيفة .. كم أتوق لزيارة قبره وأسرد له ما حدث في الأيام الحالية .. لأخبره أن الوضع يتحسن بإستمرار وإن كنا نجهل إلى أين تقودنا السفينة في أعماق المحيط .

لأخبره أن الجميع يبذل جهده في التمسك ببعضهم البعض .. بل وأخبره أنهم يجتمعون على طاولة واحدة ويتبادلون الحديث نفسه وينتهون من تناول الطعام في الوقت آنه ..

ليتك هنا لأثني عليك ..

وأعترف لك أن طيبتك البالغة لم تكن يوماً عيباً .. بل لطالما كانت تميزك في زمان يخفي الكثير وجوههم الحقيقية وأنيابهم الحادة ..

أعترف لك أن العيب لم يكن فيك يوماً يا ماكس .. بل في من نهش بجسدك وعض يدك مستغلاً طيبتك ..

سعيدة أن الجميع باتوا يستوعبون أخيراً أن الابتعاد عن المشاكل ليس ضعفاً أو خوفاً ، بل قدرة وموهبة في التمتع بجماليات الحياة دون الالتفات إلى الخلف ..

المشاكل لن تنتهي ..

المشاكل مستمرة سواء توقفت عقارب الساعة أو لا ، سواء كنا على قيد الحياة أو متنا ، سواء هربنا منها أو واجهناها ..

كما أنني فخورة لرؤية الجميع يدركون الآن أن الحياة تسير بمدأ بسيط جداً ..

إن كانت المشكلة أو الهموم قابلة للحل ..

فلا شيء نخشاه أو نقلق بشأنه ..

وإن كانت غير قابلة لأن يتم حلها والتعامل معها ..

فلا يوجد أيضاً ما نخشاه طالما لا يوجد ما نفعله أصلاً ..

ابتسمت بشرود أحدق إلى شجار سام وإيثان الذي صاح بحزم : امسح هذا الهراء حالاً يا سام وإلا كسرتها وهشمتها ..

رفع سام حاجبه الأيسر بفخر واستفزاز وهو ينظر إلى آلة التصوير بين يديه : بالطبع لن أفعل ، التقطت لك الصورة الأفضل واراهن على أنها ستحظى بلقب الصورة الأكثر تعرضاً للبصق في المجلات ..

_ سحقا لك أنا لا أمازحك !

تدخل ستيف بسخرية وحماس : دعني أرى ..

اقترب منه ينظر إلى الصورة لينفجر ضاحكاً وقال مشيراً إلى إيثان : هذه الصورة تفوز بالصورة الأكثر حمقاً ، يا رجل لم أكن أعلم أنه لديك نظرة جذابة كهذه ..

تنهدت كلوديا بلا حيلة : توقف يا سام وإلا بادرت بنفسي بكسرها حالاً ..

زفرت تيا بإنزعاج : هو بحاجة إلى من يلقنه درساً ويلتقط له صوراً نستطيع إذلاله بها ..

أيدها مارك : لم تتوقف عن التقاط الصور للجميع في وضعيات مريعة ..

ضحك بخفوت وقال محاولا تمالك نفسه : من الجيد أن كريس لم يرى الصورة التي التقطها له وهو يرفع يده محاولاً ابعاد الة التصوير ، ماذا يظن نفسه ؟ أحد مشاهير هوليود وهو يمنع الصحافة من الاقتراب !

ضحك ستيف : ماذا عن صورة شارلوت وهي تتناول طبقاً كاملاً من الحلويات !

أضاف برعب واستيعاب : تجاوز الأمر حده .. هي تبالغ حقاً في تناول الحلويات مؤخراً ..

رفعت ستيفاني كتفيها : هذا طبيعي .. إنه شهرها الخامس وقد يزداد الأمر سوءاً من يعلم ..

تمتم مارك بحيرة : الم يتأخرا ؟ كان عليهما أن يتواجدا هنا قبل ربع ساعة !

وعلى ذكرهما ها قد وصلت سيارة كريس ليوقفها أمام النافورة ، ما أن اوقفها حتى رأيت شارلوت تنزل تضع على كتفها حقيبة صغيرة اعتادت على ان تضع فيها زيها الرسمي للتمريض ..

ابتسمت بشرود وقد سرت في جسدي قشعريرة لم تكن الا نتيجة للطمأنينة والسعادة ..

وأخيراً ، اكتمل العدد الآن وهذا ما يبث بي شعور السكينة التي ارخت ملامحي وانا احدق إليهما ..

بدءأً من هنا .. سيمضي الجميع معاً ، حيث سيمسك كل منهم بيد الآخر لئلا يتوه أحدهم ..

حيث سيواصلون مساندة بعضهم ، مدركين أن العائلة والصداقة وجهان لعملة ذهبية واحدة ..

للدفء ..

للحماية ..

ولللإحتواء ..

الـــنهـــايـــــة ..

مهلاً مهلاً ..

لا يبدو أنها النهاية بعد ! شارلوت تبدو غاضبة لسبب ما وهي تقترب بسخط ، وصلت إلى طاولة الطعام فصمت الجميع باستغراب وحذر ولا سيما حين القت الحقيبة من على كتفها على الأرض وزمجرت تنظر إلى مارك : أبي هذا لا يطاق أنا حقاً لم أعد أحتمل !

تنهد مارك بلا حيلة وتعب في حين أسندت ستيفاني كفها على وجنتها : ماذا الآن ؟ وضع العطر الذي تكرهينه ؟

علق سام بملل : ليست مشكلتنا كون حملك لا يحتمل الروائح الجميلة ..

زفر ستيف متكتفاً وهو ينظر للسماء بإنزعاج : من يدري ربما مازحها قليلاً ولم يحتمل مزاجها العكر هذا ..

وصل كريس حيث كان يتقدم بوجه فاتر لا مبالي بل وجلس فوراً بجانب جوش ولم يأبه بأي من كل هذا وقد تمركز الإهتمام نحوه ..

لتشير شارلوت نحوه بغضب : لقد تمادى في اللجوء إلى أمواله واسمه ..

استفسرت كلوديا مهدئة : ما الأمر ؟! هدئي من روعك واجلسي قليلاً أولاً !

ولكنها نفيت وحدقت إليه بعينها الخضراء الحازمة في حين ابتسم بهدوء وهو يمد يده ليجرب رقاقة البطاطا المقلية مما جعلها تنفجر بحدة : كنت أتساءل دائماً لماذا كل المرضى اللذين أعاين حالاتهم أو أشرف عليهم نساء أو فتيات أصغر سناً .. اكتشفت اليوم صدفة أنه طلب من مدير المشفى أن أتولى أمر النساء وحسب ، أمي أبي لقد تجاوز حدوده كثيراً !

انفجر سام ضاحكاً في حين بدى ستيف يكتم ضحكته بصعوبة بالغة ، أشاح إيثان وتيا بوجههما بعيداً يحاولان السيطرة على أنفسهما ..

ومع ذلك رفع كريس كتفيه وبدأ الإنزعاج ينتابه : رأيت بنفسي في عدة مرات المرضى يتجاوزون حدودهم ويتقربون إليكِ بينما تبتسمين في وجوههم ببلاهة ، حذرتك من منحهم الفرص ولكنكِ من جلبت هذا لنفسك .. أنتِ حتى لا تمانعين أخذ الهدايا منهم ، هل هو خطأي الآن ؟

جادلته شارلوت بحزم : عذر أقبح من ذنب ! هل هذا هو سببك الآن ؟ ولماذا لم يكن لي الحق في الاعتراض على اتصال تلك السكرتيرة بك في أوقات متأخرة من الليل ؟! لماذا أنا فقط من يتم لومها !

_ أخبرتك أنني سأبحث عن موظفة غيرها لذا كفي عن ذكر هذا الموضوع في كل صغيرة وكبيرة ..

_ ومع هذا ستظل تتدخل في عملي وفي كل تفاصيل الوظيفة التي أعمل جاهدة فيها !

_ حسناً يا شارلوت بدأت أغضب حقاً توقفي عن الصراخ في كل نقاش !

_ بالطبع ستحاول إغلاق الموضوع الآن فأنا من أعاني من رائحة العطر المزعج الذي تضعه وقد حذرتك أنني أتقيأ بسببه ، وأنا من تعاني من نومك الثقيل كلما حاولت إيقاظك بسبب الآلام التي تنتابني ليلاً وأنا من تعاني لأيقظك صباحاً رغم إنهاكي !

_ ما الذي تريدين مني فعله بحق الجحيم ألا يكفي أنني اخرجت كل العطور من الغرفة ، ولماذا بات نومي الثقيل قضية بالنسبة لكِ فجأة !

ألم أقل أن المشاكل لا نهاية لها ؟

بالمناسبة لا تغيرو رأيكم في كل ما قلته للتو ..

عليكم أن تفهموا جيداً أن الخلافات ليست إلا تجديد للعاطفة بين الناس وحسب ..

والآن سأتوقف هنا فلا أحد سواي قادر على إنهاء الأمر ووضع حد يصمتهما ..

.

.

تـــمـــت ..

النهــــــــــــــــــــــــــــــــاية


جميع الفصول


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-